إنها الليلة المباركة، وأفضل ليالي الدهر، وخير ساعات العمر. وسميت بليلة القدر كما قال السلف إمَّا لأنه تقدَّر فيها مقادير الخلائق على مدى العام من الآجال والأرزاق والسعداء والأشقياء والخصب والجدب، والغنى والفقر.. إلخ كما قال سبحانه: (فيها يفرق كل أمر حكيم)، وقيل إنما سميت ليلة القدر لعظم قدرها ومكانتها عند الله تعالى من كثرة مغفرة الذنوب وستر العيوب والعتق من النار. وقيل سميت بذلك لنزول الملائكة الكرام بإذن الله لمشاركة الصائمين في الصلاة والدعاء وتلاوة القرآن والاستغفار. ولهذه الليلة العظيمة فضائل وخصائص كثيرة أذكر منها على سبيل المثال: أولاً: أنها في الأجر والثواب خير من ثواب العمل الصالح في ألف شهر بما يعادل أربعة وثمانين عاماً وبضعة أشهر. ولعلَّ من الحكمة في ذلك أن من قصَّر أو فرَّط في عمره يعلم أنه يستطيع تدارك ذلك التقصير باغتنام تلك الليلة المباركة التي تعوِّض من كُتب له الأجر عن عمر طويل. ثانياً: نزول الملائكة الكرام ومعهم كبيرهم جبريل عليه السلام كما قال سبحانه: (تنزَّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر)، وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة أي: يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركاتها فهم يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون بحلق الذكر ويضعون أجنحتهم لطالب العلم إكراماً له. ثالثاً: أنها سلام إلى مطلع الفجر، أي أنها ليلة سلام ومحبة وتسامح ورحمة وتصالح وكف أذى وصلة أرحام وبر والدين، وابتعاد عن الحقد والحسد والعداوة والبغضاء والشحناء، فكل من تردَّد في تلك الليلة المباركة عن تصفية قلبه من تلك الأوضار فهو فيما سواها أعجز وعن وسوسات الشيطان الرجيم أضعف. رابعاً: أن من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه كما أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام، ومعنى إيماناً أي تصديقاً بأنها حق، ومعنى احتساباً أي إخلاصاً لله تعالى لا رياءً ولا سمعة. خامساً: أنه لم يحدد وقتها من أجل أن يجتهد المسلم في تحريها وإن كان قد ورد في الأحاديث الصحيحة أنها تقع في العشر الأواخر من شهر رمضان فقال عليه الصلاة والسلام: (والتمسوها في العشر الأواخر) وقال: (في تاسعة تبقى.. في سابعة تبقى.. في خامسة تبقى). وقال أبي بن كعب رضي الله عنه: (والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان.. ووالله إني لأعلم أيَّ ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا بها رسول الله عليه الصلاة والسلام بقيامها، هي ليلة صبيحة تسع وعشرين ومن علامتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها. وليس من الضروري لمن أدرك ليلة القدر أن يعلم أنها ليلة القدر ولكن بما يشعر به ليلتها من الخشوع وكثرة الدعاء والبكاء والإحساس بلذة العبادة والمناجاة والسكينة النفسية والراحة القلبية. ويستحب الإكثار في ليلة القدر من الدعاء يقول: (اللهم إنك عفوّ تحب العفو فاعف عنِّي) والحرص على أداء صلاة التراويح والإنابة والتوبة من الذنوب والمعاصي. يقول الشاعر المصري أحمد مخيمر رحمه الله في وصف ليلة القدر: أنت في الدهر غرَّة وعلى الأرض سلام وفي السماء دعاءُ يتلقاك عند لقياك أهل البر والمؤمنون.. الأصفياءُ وقلت فيها: أنوار عشر أقبلت يا صاحِ معمورة بتلاوة وصلاحِ ذكر وتسبيح.. وطول تهجد وسجود إخبات إلى الإصباحِ والأجر فيها للعباد.. مضاعف تسمو النفوس.. لجنَّة وفلاحِ وتحرياً فيها.. لليلة قدرها وتنزلاً لملائك.. أرواحِ فاغنم فضيلتها واربح ثوابها بالجد سعياً بغدوة ورواح فاللهم ارزقنا إدراك ليلة القدر واكتب لنا فيها المثوبة والأجر واغفر لنا فيها الذنوب والوزر. عبدالله محمد بن حميِّد المستشار الشرعي بإمارة منطقة عسير