ذات مساء عادي، وبينما كنت في المطعم وأمامي صحن من الفلافل و(ملحقاته)، إذ أخرجت جوالي وفتحت سنابي وصورت مائدتي وأرسلتها معتزا بنفسي، وما هي إلا لحظات حتى أرسلت لي إحدى اللواتي ممن نفد صبرهنّ قائلة: بصراحة أنت لا تجيد التصوير أبدًا! حاولت ألا أقاوم حالة الإحباط التي أصبت بها اتباعًا لإرشادات كتاب «السماح بالرحيل» لمؤلفه ديفيد هاوكينز، وعدت بذاكرتي إلى زمن كنت أنتقد فيه أولئك الذين يصورون كل شيء إلى أن أصبحت في البلاء مثلهم. وخطرت في بالي تساؤلات: أهي محقة؟ وهل مطلوب منا التصوير باحترافية؟ بل ما الدافع إلى التصوير ابتداءً؟ وسرحت بعقلي محاولًا الإجابة: هل هو الشغف أو التوثيق أم أنه تقليد ورغبة في الاستعراض أو أنه إحدى نتائج الفومو (الخوف من الفوات)؟.. وهل يخشى البعض من أن تلك اللحظات لن تتكرر فيريد تخزينها وأرشفتها؟. لقد بدت ظاهرة التصوير مبالغًا فيها، حيث نجد أحدهم - مثلاً - يقضي الوقت بتصوير الحرام أكثر مما يتعبد، وفي تصوير الكتب أكثر مما يقرأ، وفي تصوير الطبيعة أكثر مما يستمتع. أما عن تصوير القهوة فحدث ولا حرج، فإن البعض يصور قهوته يوميًّا، دون كلل ولا ملل، لا تجد في حالاته سوى صور القهوة، في كل الفصول والظروف والأحوال! ولست أدري ما هو إحساسه بذلك وكيف يشعر؟ مع تسليمي بأنها حرية شخصية ليس لأحد الحق بالتدخل. قال حكيم وهو يعظ مصورًا: «يا بني.. إياك والتصوير في غير ضرورة، فإنه أدعى لتشتيت الذهن وضياع الوقت، وقد يوجه نظر الحاسد إليك، ويكسر قلب المحروم عليك. وليوشكنّ التصوير أن يضمحل كما كاد الواتس ومن بعده الأنستا - بالأمس - أن يضمحل، فما هذه الصور إلا وهم وسراب، فإن كان ولا بد وأردت أن تصور مكانًا، فليكن تصويرك متقنًا وممنهجًا، فلا تجعل من وجهك واجهة لكل الصور، وما تفعل الناس بوجهك؟! بل صوّر المكان العام ليرى الناس معالمه، ويدركون ماهيته، ويتأملون تفاصيله. واحذر من «الزوووم»، فإن «الزوم» في غير موضعه يبدي ما لا ينبغي ويظهر عيوبًا سترها الباري، واحذر «الفلاتر»؛ فإنها تفضح أمرك حين تُرى بدونها وقد تحدث حينئذٍ صدمة للرائي، فتبكي الصغير وتزعج الكبير وتحبط المتأمل المسكين، واحذر من «الفوتوشوب»؛ فإنه خداع والخداع لا يجوز في الأديان والأعراف. يا بني: إن الصور ممتدة الأثر وشاهدة عيان يوم يبعثون، فاجعلها لك لا عليك» وإن كان لمتعة اللحظة منغصات ظاهرة كالهموم والتشتت والتفكير، فإن «التصوير» هو منغصها الخفي، حيث يتوهم المرء أنه عاش المتعة به. ولست هنا لأحارب التصوير بمجمله، ولكني ضد أن تتحول الحياة كلها إلى صور، فلا نعيش الحاضر ونظل رهنًا على أطلال الماضي، ناهيكم على أن أغلب الصور لا نعود إليها بل «نفرمتها» عند أول امتلاء للذاكرة. وتذكروا ما قالته إحدى الراقصات - غفر الله لنا ولها - لأحد الأصدقاء في مركب بحري، عندما وجدته يصورها أثناء وصلتها، إذ تقدمت إليه وهمست في أذنه بلطف وبراءة: استمتع ثم صور. ثم إنني عدت إلى السناب لأعرف ما الذي جعل تلك المرأة تنتقد تصويري العظيم، فوجدت - بعد تأمل - أن الشوكة قد أخذت نصف مساحة الصورة، وأنني نسيت رفع الخبز عن طبق الفلافل (وملحقاته) أثناء التقاطها. كما أن جزءًا من أناملي ظاهرة، وزاوية أخذ الصورة خطأ لا يغتفر، وغطاء الشطة مرمي، وعلبة البيبسي في زواية الطاولة تبكي.. فأدركت الواقع الأليم وعرفت الحقيقة المرة، وأنا الذي كنت أظن أن صوري يمكن أن تنال جوائز عالمية، فوالله لو شاركت لوحدي في مسابقة لنلت المركز الثاني.