الرياض – محمد الغامدي بضائع سعودية في الأسواق والمطاعم. الإرساليات المسيحية دخلت الجنوب عام 1848م. الظلام لم يمنع الجنوبيين من أحاديث السياسة. بدأت رحلة «الشرق» إلى دولة جنوب السودان بمعاناةٍ لازمت مراسليها منذ أن وصلوا إلى مقر سفارة جوبا في الخرطوم، ثم استمرت المصاعب في مطار العاصمة الجنوبية مروراً بالبحث عن فندق ومحاولة التقاء المسؤولين الرسميين. ذهبت «الشرق» إلى جوبا لرصد تفاصيل دولة ناشئة تبحث عن فرص الاستثمار والظهور عبر وسائل الإعلام كما يقول وزير الإعلام في حكومتها برنابا بنجامين. وخلال هذه الرحلة اختلطت الجوانب الإنسانية والاجتماعية بما هو سياسي وما هو اقتصادي، كما لم يكن البُعد التاريخي غائباً، تحدثت «الشرق» إلى مسؤولين في الحكومة وإلى مواطنين، وتعرفت على حجم المشكلات والتحديات التي تواجه هذه الدولة، وحاولت استشراف مستقبلها القريب. قبل أن أصل إلى جنوب السودان، علمتُ أن تقريراً صدر عن منظمة «هيومن رايتس ووتش» الحقوقية العالمية يدعو دولة الجنوب الوليدة إلى المسارعة بحماية الصحفيين وحرية التعبير فيها، ويوجِّه انتقادات شديدة لحكومة جوبا. ورأى التقرير أن على حكومة دولة الجنوب القيام بالتحقيق ومقاضاة من يقومون بالاعتداء على المتظاهرين والنشطاء والصحفيين، إضافة لتمرير القوانين التي تحمي حرية التعبير. وقال مدير دائرة إفريقيا في المنظمة دانيال بيكلي، إن السلطات الأمنية تقيد حرية التعبير عن طريق التحرش والاعتقالات والاحتجاز للصحفيين دون أي مسوغ قانوني في عديد من المناسبات. جاء هذا التقرير في الوقت الذي صُدِمتُ فيه، وأنا أحمل تصريحاً من وزارة الإعلام بالتصوير في أي مكان، لكن أول صورةٍ أردتُ التقاطها في البلد وُوجِهَت باستنكار من الأهالي، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل كاد يصل إلى اشتباك بالأيدي فضَّهُ صاحب الفندق الذي أبلغنا بأنه لا يجب التصوير، هنا لا أحد يريد الصور، لا يحبون المصورين، يرى السكان أنهم يستغلون الأهالي لبث صور مسيئة لهم فقط، أما الجانب الإيجابي، فبحسب المصور جابريال وينق، لا يتم نقله عنهم، ليست الإشكالية في التصوير، أستطيع التصوير بقلمي ما لم تستطعه الكاميرا. نشاط تبشيري أثناء وجودي في جوبا، كنت أسمع المبشرين بالمسيحية عبر مكبِّرات الصوت وهم يجوبون الشوارع ويدعون الناس، لاحظت أنه في شارع واحد توجد ثلاث كنائس، والناس تنصت بشكل كبير. عرفتُ هنا أن الإرساليات المسيحية بدأت عملها في الجنوب عام 1848، وواصلت نشاطاتها حتى عام 1899 حيث كثفت جهودها وزادت من عملياتها التبشيرية، بل كُلِّفَت بنشر التعليم بين أبناء وبنات الجنوب، وقدّمت طلائع الإرسالية الكاثوليكية والإرسالية البروتستانتية إعانات مالية بدءاً من عام 1927، ولهذا السبب فإن نسبة المسيحيين مرتفعة جداً في هذه الدولة، فيما نسبة المسلمين قليلة، وحسب الإحصاءات الرسمية فإن المسلمين يعادلون 19% من نسبة السكان البالغ عددهم تقريباً ثمانية ملايين نسمة. يوم الجمعة الذي قابلنا فيه وزير الإعلام، بحثنا عن مسجد في جوبا فوجدنا واحداً وسط أحد الأحياء التي تنتشر فيها العمارة الأوغندية، وهو عبارة عن بناء صغير المساحة، بينما الكنائس تنتشر بشكل واضح للعيان وفي شوارع كبيرة. اتجهت بعدها إلى ساحة الحرية التي أخرجت فيها الكاميرا كي أبدأ التصوير فأمسك بي أحد الجنود وقال «ممنوع التصوير»، أظهرت له التصريح من وزارة الإعلام، أمسك به مقلوباً ثم أخرج جواله واتصل بشخص، قال لي انتظر ليأتي ملازم ويقرأ ما في التصريح ويفعل مثل زميله الأول، ثم يقول: «انتظر قليلاً»، يأتي ثالث أعلى رتبةً من سابقيه، يقرأ التصريح ثم يقول: «دعه يصور»، سحبني الجندي من يدي وقال «تعالَ»، نزلنا جهة ضريح الزعيم الجنوبي المعروف جون قرنق، قلت له إنني لا أريد تصوير الضريح، بل أريد تصوير الساحة فقط، قال «تعالَ». نزلنا جهة القبر والتقينا ملازماً آخر تسلّم التصريح ثم قال «لا، ممنوع التصوير»، فسحبت التصريح من يده وقلت «شكراً لكم على حسن الضيافة»، اتجهت وحدي ناحية مدرسة جون قرنق وبيته الذي انطلق منه، كان مقراً لهيئة الإغاثة الإسلامية، وسيأتيكم الحديث عنه في حوار مع نائب الرئيس. بدأت التصوير، ولم أعلم من أين ظهر لي شرطي إذ لم يكن هناك سوى الأهالي، اتضح أنه من الشرطة العسكرية، أخذ الكاميرا وقال: «امسح ما صوَّرته»، منحته التصريح، قرأه وضحك، ثم قال: «ممنوع التصوير». بضائع سعودية عندما حلَّ يوم السبت وهو عطلة رسمية مع الأحد، تجولنا في العاصمة وأسواقها، وفي استراحتنا بعد المغرب في الشارع المقابل للفندق، وهو شارع الوزارات في حي الثورة، جلستُ في الهواء الطلق لأشرب قهوة «ست الشاي»، هي شابة عشرينية اسمها «دنيا»، أمامها «بسطة» صغيرة عليها أدوات تحضير الشاي والقهوة، ويجاورها «قدر كبير» مملوء بالبيض المسلوق ومثله من «الفلافل» صغيرة الحجم. سألتُ دنيا: «هل لديكم مزرعة دواجن؟» أجابت بلا، قلت: «من أين لكِ كل هذا البيض؟»، قالت: «من يوغندا أو كينيا»، بدت الإجابة غريبة، فهذه البلد حباها الله طقساً ممطراً طيلة عشرة أشهر من السنة، وهي على خط الاستواء وتعدّ منطقة زراعية ذهبية ومع هذا يستوردون البيض من جيرانهم. في الأسواق التي زرتها والبقالات التي مررت بها، لاحظت أن كثيراً من البضائع السعودية موجودة في جنوب السودان، ألبان وحفاضات أطفال وكثير من المواد الغذائية، وجدت ثلاجات تحمل علامات تجارية سعودية في أكثر من مطعم. كنت ومعي ثلاثة من الفندق، ليبيان وسوداني شمالي، ثلاثتهم مستثمرون صغار، جميعهم أكدوا أن الاستثمار هنا يحتاج إلى يد تساندك، ولا تستطيع بشكل مباشر أن تكون ظاهراً في الصورة لأن حقوقك ستُسلَب ولابد أن تتعرف على أحد في الحكومة كي يمرر لك الأوراق أو ما تريد، أوضحوا لي أنهم لا يريدون الظهور في الصورة كي لا يؤخذ منهم موقف فتجارتهم متنوعة، هم يتاجرون في كل شيء وخصوصاً المواد الغذائية التي يُدخِلونها عن طريق كمبالا. أحاديث السياسة والحرب لم يمنع الظلام الدامس في الأكشاك المنتشرة بطول شوارع العاصمة الأهالي من الجلوس على قارعة الطريق لاحتساء الشاي والقهوة، يتسامرون حتى العاشرة والنصف ليلاً، يخبرني ديمس كويل، وهو مسيحي وأستاذ في الجامعة يجلس يومياً في مقهى «دنيا»، أن هذه الحالة مستمدة من طبيعة السودان الذي اعتاد على السمر حول النار، تحولت هذه العادة إلى ما نراه اليوم، والهدف من كل هذا هو التجانس والتقارب، الكل يعرف الكل، أينما ذهبت في جوبا. معظم الحديث كان يدور حول الحرب والسياسة ومنطقة أبيي وما يحدث فيها من مواجهات بين الشمال والجنوب، وعن الفقر والمجاعة التي أعلن عنها لويس لوبونق حاكم ولاية شرق الاستوائية، حيث توفي عشرة أشخاص نتيجة المجاعة في المنطقة. حاكم الولاية كشف، في تصريح صحفي قبل وصولنا بأيام قليلة، أن حكومة جوبا لم تقدم المساعدة حتى الآن، وأن عدد الموتى سيتضاعف إذا لم يتم تدارك الوضع، ودعا منظمات الإغاثة الإنسانية للإسراع في مد يد العون لإنقاذ المواطنين. بدوره، حذر برنامج الغذاء التابع للأمم المتحدة في بيانٍ له من أن أكثر من مليوني شخص سيتأثرون جراء هذه الأزمة، ومن أن مئات الآلاف من الأطفال سيكونون عرضة للإصابة بسوء التغذية. ورغم هذه الصعوبات تجد أهل جنوب السودان يركزون في أحاديثهم على تصريحات الحكام والمسؤولين وما سيقدمونه، دون أن يهتز لهم جفن جراء ما يحدث من مجاعة أو أمراض. أما وسائل الإعلام في الدولة الوليدة فتسلط الضوء على أوضاع البلاد وما آلت إليه وازدياد معدل الفقر، وعدم وجود فرص عمل، وغياب استثمار أجنبي والتركيز فقط على البترول دون النظر إلى أن الأرض غنية بموارد أخرى قد تغني عن البترول كالزراعة والتعدين والسياحة. وعند زيارتنا لصحيفة «المصير» في ثاني أيام العطلة الأسبوعية، تحدث المسؤولون فيها عن التسويق لجنوب السودان، وكشفوا لنا معاناتهم مع الحكومة ومحاكمتهم مؤخراً على قضية فساد حكومية، وتحدثوا عن كيفية انتشار الفساد في الحكومة، وعن رشاوى لمسؤولين رسميين بلغت قيمتها ثلاثين مليوناً، كانوا يتحدثون إلينا كأننا يجب أن نشاركهم في همّهم. الاستثمارات: * البترول: هو حكاية الاقتصاد كله في جنوب السودان، فكل الآمال منصبة عليه إلى الآن. * الزراعة: توجد فرص لمعالجة قصب السكر، ومعالجة مجموعة متنوعة من المنتجات الزراعية الأولية لزيادة قيمتها، بجانب توفير مشاريع ونظم الري، ومنتجات الغابات. * الثروة الحيوانية والسمكية: يوجد في جنوب السودان 11 مليون رأس من الماشية وعشرون مليون رأس من الأغنام والماعز، وأكثر من 300 ألف طن متري سنوياً من الأسماك. * السياحة: توجد سبع حدائق وطنية و11 محمية تضم أكثر النباتات والأعشاب ندرة في العالم، ما يقود للاستثمار في مجال الفنادق والمطاعم وإقامة المؤتمرات. * التعدين: توجد فرص لتعدين الذهب، اليورانيوم، الزئبق. * النقل: تحتاج جوبا إلى مستثمرين في البنية التحتية للقطاع، ممثلة في الموانئ الجوية، الطرق، السكك الحديدية، النقل النهري. * التعليم: تبرز الحاجة للاستثمار في مجالات التعليم المختلفة خاصة الجامعات الخاصة والمعاهد الفنية. * الصحة: وضعت حكومة جنوب السودان أولويات لتشجيع الاستثمار في الصحة بجانب الاستثمار في المستشفيات الخاصة والصيدليات. طفل في جنوب السودان من منطقة فقيرة الثروة الحيوانية من أهم فرص الاستثمار في الجنوب (الشرق) تجمع لجنوبيين أثناء عرض طلباتهم على رئيس برلمان ولاية الاستوائية الوسطى طفلة تعمل كبائعة متجولة