بضعةُ أصواتٍ أكاد لا أفهمها، ورفرفةُ أجنحةٍ لعصفورٍ ربما حملته الصدفة قرب عالمي، ونافذةٌ تأذن لضوء الشمس أن يتساقط على وجهي فأشعر بدفئه دون أن أراه، ووهنٌ من سباتٍ أتجنبه بأن أخطو إلى سباتي الممتد، لا أفقه أي ومضاتٍ ولا التقط أي لحظاتٍ، أواسي عينيّ برؤية اللون الأسود مكرهاً، وقد أخبرتهما أن الظلام يرتقي فوق الفراغ فلم تأبها بي، وقد أعلمتهما بحالي التائه فلم تلتفتا لجرحي الأزليّ، فكل ما حولي يُطبق على أنفاسي ويلقيني أسيراً لغربتي، وأعجب ممن يخشون الموت فأنا الآن مجرد شعور ميت، لا أحتاج قبراً ولا أرتجي عمراً. كَرِهَت نفسي خطابَ نفسي، ويئست جروحي من عجز روحي، فأنا مجرد حطام قاربٍ صغيرٍ قد أغرقه الشلل، وفتات حياة لا يعرف وجهته، ولا أظنه سيلامس الأمل.. أنا لا أرى!. جلست على سريري الذي أظنه سيمتلك ما تبقى من وقتي الضيق، واتكأت على أغطيته التي أصبحتُ أحفظها غيباً، رغم أنني لم أعرف لها لوناً وغير الضعف لم آلف لها طعماً، أشعر أن يومي يتوارى عندما يبدأ، وعقارب ساعتي الهرمة لم تعد تقوى على الرحيل، أصبحت أشك أن حول ظلمتي نور، ولا يعنيني أن في الكون شيء يدور، هممت بالوقوف دون أن أعرف لماذا، وركبتُ أصغر عربات الزمن دون أن أعرف إلى أين، مددت يديّ أمامي خشيةً مما لا أدري، رغم يقيني من يُتم تلك الطريق، ربما لا أترنّح الآن كما كنت صغيراً عند المسير صوب أمي.. أمي.. أين أنت الآن يا أمي!. صدقيني إنني أراكِ الآن وأنتِ تريني كما لو كنت كل ما لديك، وصلتُ عند تلك النافذة المغلقة كغيرها من نوافذ حالي، وقفت أمامها أتصنّع البأس وأدّعي الانشغال، ثم ضحكتُ ما أن تجرّأت أناملي على مداعبة إحدى حوافها، لقد كانت الستائر مسدلةً وأنا أتوهم استراق النظر، لم أعرف إن كان ذلك مضحكاً أم مفجعاً، لكنني لن أزيل تلك الستائر، فتكالب الظلمات لا أظنه سيغير في الأمر شيئاً.. التفتُ صوب اليمين قليلاً قاصداً مقعدي المهتزّ، عددت في حضرته ست خطوات دون أن أزيد، فأطرافه قد تلقّفت أرجلي وصافحتها، كانت كبحّارة يشدّون بحبالهم بعض الناجين إلى مركبهم في بحر مائجٍ ويوم هائج. جلستُ أبتغي سماع صوت زفيري الحزين، وأرتجي استحضار ما يُشغلني عن نفسي، لم أفلح في ذلك فقد تسلقت الأفكار إلى أجفاني, مسكينة تلك الأجفان فهي تعمل بلا فائدة, تغرّد بعيداً عما يؤرقها, ترتفع وتطبق بلا غاية، لكن يكفيها أنها لا تعلم تلك الحقيقة المرة. كان كل شيءٍ صامتاً من حولي، لم يخرق ذلك الجدار المصمت سوى بضع ضرباتٍ من قلبي، يضايقها تلك الأصوات المتواترة من مقعدي المتأرجح جيئةً وذهاباً، ويزاحمهما أشباهٌ لذكريات وأخيلةٌ لهواجس، سألت نفسي عمن أبوح له بحزني الغائر في خاطري، ومن معي سيقرأ تلك الرموز الكئيبة دون أن أنطق بها، وسيدرك أن أفدح النُدَب لا تبصرها الأعين، ربما لا أحد سيفعل ذلك، أو ربما لا أحد سيفلح في ذلك. أنا لست أكثر من قصةٍ قد انتهت، وغيمة قد تبددت، وسراب يترامى في نفقٍ موحش، الحاضر عندي ظنون، والغد أراه ضربا من الجنون، ولا شيء في خاطري له شجون. تذكرت غسق المساء وندف الثلج الكبيرة عند تشيخوف، ذلك الذي أبهرني قبل أن يودعني البصرُ وبلا عودة، تذكرت قصة ذلك الحوذيّ وهو يجلس متقوّسا فوق فرسه البيضاء، يبتغي رزقه بنقل الآخرين على عربته البائسة، كان حزيناً إلى حافة الانهيار، يستجدي عطفاً وينشد حباً من غيره، وفي كل مرة وأثناء المسير، يلتفت إلى من معه قائلاً: يا سيدي، لقد مات ابني هذا الأسبوع، يبدو أنها الحمى، رقد ثلاثة أيام ثم مات، بعدها يصمت منتظراً عطاء السماء بألسنة البشر. لم يطمع بأكثر من بضع كلمات، ولم يحتاج حينها سوى بضعة أحرف تُدفئ قلبه المتجمّد لفراق من أحب، لم يلتفت لحُرقته أحد، ولم ينظر لجرحه النازف أي واحد منهم، وما أن يكمل سرد قصته على مسامعهم المتحجّرة، حتى تتعالى أصواتهم: أنتبه يا أحمق.. هل عميت أيها العجوز!.. هيا سر.. بهذه الطريقة لن نصل حتى الغد.. هيا أسرع..!. أنا يا تشيخوف مثل ذلك الحوذيّ، كلانا نتحرك بأرجل مكسّرة وقلوب ميتة، هو لن يرى أبنه وأنا لن أرى الحياةهو لم يستطع تقبل الرحيل وأنا لا أتقبل نفسي، كان من معه يغلقون أعينهم وأنا أيضاً مغلق العينين، ربما كان سينفعه إنصاتهم لكنني لم يعد ينفعني شيء، أرجوك يا تشيخوف أخبرني لمن أشكو كآبتي!