البحث العلمي الركن الأسمى من نتاج وجود الجامعات، والمؤسسات التربوية الحاضنة للعلم والمعرفة، والجامعات الرائدة هي التي أدركت أهمية البحث العلمي في عالم متغير وسريع، وعاصف بالأزمات المتنامية، وتستطيع من خلال منظومة شاملة في البحث العلمي أن تواكب التطورات التي تنشأ في بيئة الأعمال، وتواجه الأزمات والتحديات المتعاظمة التي تعصف بمكونات المؤسسات والمجتمع، حيث يعتبر الاهتمام بالبحث العلمي والتوجه نحو تعظيم اعتناقه في مكونات العمل الإستراتيجي للمؤسسات أبرز ملامح ومعالم الفكر المعاصر، فتقدم الأمم والدول يقاس بمدى التقدم البحثي، الذي يحسب دائما كأحد وأهم نتائج تطوير الدراسات العليا، التي بدورها تمثل المورد الأهم للبحث العلمي، حيث الأسلوب المثالي لتكوين وصناعة العلماء والباحثين والمفكرين. يأتي تطوير البحث العلمي والاهتمام به على قائمة الإستراتيجيات الأهم، كون ذلك مرتبطا بالتنمية الشاملة في المجالات المختلفة، إلى جانب توظيفه لحل المشكلات المطروحة أمام المؤسسات وظروف المجتمع وأحوال الأمم. لذا، فإن تعظيم البحث العلمي سوف ينعكس إيجابيا على مكونات المجتمع بشكل متكامل، ويعتبر أحد المفاتيح التي تجد الجامعات اليوم نفسها على مفترق الطرق عنده، ولا سيما في السنوات الأخيرة. ومن ثم، فإن مشاركة البحث العلمي في مواجهة المشكلات الخاصة بالتنمية، والتصدي للأزمات المختلفة، أصبحت أولوية قصوى لدى صناع القرار، حيث يجب العمل على إنتاج كوادر علمية تخدم قضايا التنمية، والعمل على إحداث نقلة نوعية في الدراسات المختلفة، تكون محورا ومرتكزا أساسيا للتقدم وتعزيز التنمية وتحقيق النهضة. تهتم الدول المتقدمة بالبحث العلمي، وتولي له أولوية كبيرة في خططها التنموية، وتخصص نسبة كبيرة من دخلها القومي لتمويل البحث العلمي في الجامعات ومراكز الأبحاث التي تعتبر الحاضنة المركزية للإبداع والابتكار، ولذلك نرى أن مقدار ما تخصصه الدول المتقدمة للبحث العلمي بالنسبة لدخلها القومي مرتفع. كما أن المتتبع التطور الذي حققته دول جنوب وشرق آسيا يرى أن اهتمامها بالبحث العلمي هو المحرك الرئيس لهذا التطور، إذ أولت هذه الدول أهمية متزايدة للبحوث والتطوير والابتكار، وتجربة كوريا الجنوبية وماليزيا خير مثال، فهى تجربة مدروسة ومخطط لها، وبفضل السياسة البحثية العلمية والتقنية، حققوا إنجازات حافلة ومتقدمة عالميا، وعظموا الجهود الوطنية للتنمية الصناعية، ونافسوا على المستوى العالمي في المشاريع البحثية المستقبلية. اليوم، وفي ظل جائحة «كورونا»، يتعاظم الدور، وتكبر المسؤولية على صعيد جامعاتنا العربية، لنتعلم الدرس جيدا من خلال العمل وفق منظومة فاعلة، والنظرة الاستشرافية للمستقبل عبر تعظيم دور البحث العلمي، ونقل التقنية الحديثة للجامعات العربية وتوطينها، وتلبية حاجات المجتمع، والتحول نحو مجتمع بحثي رائد، وانطلاق الجامعات العربية والمراكز البحثية نحو جهود كبيرة في الشراكات المحلية والعالمية، لخدمة المجتمع المعرفي، ونشر ثقافة البحث العلمي في المجتمع العربي، والاستثمار في صناعة وتطوير المعرفة، بالإضافة إلى توفير البيئة المناسبة لإجراء الأبحاث العلمية المجدية، وتوفير فرص الاستثمار المتنوعة، إلى جانب جذب الاستثمارات لدعم الأهداف الإستراتيجية وخدمة الاقتصاد الوطني، مما سيسهم ذلك كله في تحقيق توجه الجامعات العربية والمجتمع العربي نحو التحول إلى مجتمع معرفي متكامل، يحقق مزيدا من الاهتمام بالعلم والأبحاث، ويعظم الدور الذي يمكن أن تلعبه مؤسساتنا العلمية من أجل الاستفادة منها في التطبيقات الصناعية والتجارية. كما يهدف إلى الإسهام الفعال في تطوير اقتصاد المعرفة عبر تعزيز الشراكة بين المؤسسات التعليمية ومجتمع الأعمال، والاستثمار على أسس تجارية، من خلال الاستثمار في المشاريع المشتركة التي تصقل الخبرات، والتطبيق العملي لطلبة الجامعات وأساتذتها. الظروف مواتية لتعظيم البحث العلمي، والانطلاق نحو فجر جديد وعالم آخر مختلف، والانتقال إلى صفوف البلاد المتقدمة التي اعتنقت البحث العلمي، من خلال رؤية مستقبلية واضحة، ولديها إيمان بأهمية العلم والمعرفة، وتمتلك ثقة في قدرتها على تحقيق خططها، ولديها الاستعداد الكامل والرغبة الحقيقية في الاستفادة من عقول أبنائها ومهاراتهم، وإعطاء الأولوية للتنمية العلمية التي أصبحت بالضرورة هي الدعامة الأساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية بدلا من الدوران حول الذات، وتكرار ما ينتجه الآخرون، فالجامعات والمراكز البحثية العربية بحاجة ماسة لأن تقيم واقع البحث العلمي، ومدى إسهامه في التنمية، فبدون تقدم علمي لن تكون هناك تنمية قوية، حيث إن الأبحاث والدراسات العلمية لا تنحصر في مجال الاختراعات ومجالي العلوم والهندسة، بل تشمل جميع المجالات العلمية، بما فيها الاقتصاد والإدارة والاجتماع. ولتحقيق ذلك يجب تشكيل هيئة عليا للبحث العلمي، ترعى تحقيق هذا الهدف، وتنسج منظومة عمل متكاملة، لتطوير وتعميق البحث العلمي في مؤسساتنا عبر إستراتيجية وطنية وخطط فاعلة، ومن ثم وضع الخطط الدقيقة، لإحداث قفزات كمية ونوعية في مجال البحث العلمي، حتى نصنع حضارة مشرقة.