الصحوي الجديد يسير رأسًا على عقب في وضع نشاز، ليس الشكل هو الشكل، ولا السمت هو السمت، ولا اللغة هي اللغة، بل أشد من هذا وذاك، حتى أهداف الدين الأساسية- التي يتمسك بها المسلم البسيط، الذي لا يتوق للحور العين ويطاردهن بالجهاد والموت، ولا يروم تحرير الأقصى، ولا عودة الخلافة الراشدة، بدأت تفلت من الصحوي الجديد بقصد أو من دون قصد بسبب استمراء التظاهر والتصنع والتكلف، ومع إدراكنا العميق أن الصحوة فساد في الدين والفكر، إلا أنها باتت اليوم سلوكًا تدينيًا تعرفه من القول ومن الفعل ورد الفعل، وباتت الصحوية اليوم (كنظرية) ردة فعل معارضة على السياسي السعودي في أي شأن كان، حيث لم يعرف المجتمع السعودي في أربعين سنة مضت، غير المعارضة السياسية في قالب الصحوية، بعد أن قضى عقدين ونصف من الزمان من الخمسينيات وحتى منتصف السبعينيات تحت مراهقات المعارضة القومية والبعثية والشيوعية، والتي تلاشت تدريجيًا، حينما ابتلعت المقاومات الإسلاموية المختلفة كل الأفكار المعارضة، وأعادت إنتاجها من جديد في قالب إسلامي حركي سواء كان سنيًا أم شيعيًا، وظهرت أفكار كحرية التعبير، والمسألة الحقوقية، والمسألة الدستورية، والمشاركة السياسية، والتوزيع العادل للثروات، ومسألة السيادة السياسية، وكلها قوالب يسارية، لا علاقة للدين بها، بل عالجها بطريقة مختلفة تمامًا عن النظريتين اليسارية والصحوية، ناهيك عن الفكر الحركي المستلهم من اليسار الثوري، فكر الحركية والمعارضة، وفكر المنشورات، والكتب التي بلا أسماء أو التي كُتبت تحت أسماء مستعارة، والتي تهدف بالمقام الأول إلى إسقاط الرموز الوطنية وهيبتها في نفوس الناس، غير أن النظرية الصحوية جلبت معها، الإرهاب المتمثل في حرب العصابات والتفجير والاغتيالات، ناهيك عن الاغتيال المعنوي بالتكفير والمروق من الدين، ومؤخرًا الرمي بالخيانة والعمالة لأجندات ودول ومنظمات خارجية. وقصارى القول إن النظرية الصحوية في حركتها الارتدادية، بدأت، مؤخرًا، تتخلى عن حالة التدين الظاهر إلى حالة من خلق الرأي باتجاه معين، وحشده وراء غاية محددة، كتهيئة بعيدة المدى، معماة الجهة والطريق، بعيدة الغور في المستقبل وصولًا إلى هدف ملحمي خيالي هو: مواجهة الآخر في معركة نهاية العالم بعد أن تتمكن «الثلة المؤمنة» من جمع أمة الإسلام تحت «راية واحدة»، التأمل بهذا الأمر وحده كفيل بفك أي ألغاز يحار أمامه عقل غير المدرك لما يجري، خصوصًا حينما ينطق الداعر بالفضيلة ويتحول في حديثه لا فعله حارسًا لها؛ لأن القوم يريدون شعورًا فحسب، ويكفيهم عن الفعل في هذه المرحلة كما نقلت في مقال سابق عن الراحل عبد الرحمن الدوسري. من المهم أن ندرك وجود خاصية التلون على أي شكل كان في صُلب النظرية الصحوية، ولو بمفارقة التدين والدين، ولهم في ذلك فتاوى وتسهيلات على الأتباع، فقد جاءت إلينا جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية الرحم الحاوي لجنين الصحوة، وكانت بيئتنا مختلفة عن البيئة التي ولدت فيها جماعة الإخوان، فلم يكن هناك انسجام بين الإخوانية والسلفية في السعودية، فالأولى نشأت في بيئة أكثر تمدنًا وانفتاحًا واحتكاكًا من بيئتنا، ولم تتمكنا من التفاعل والتعاطي لأكثر من عشر سنوات على الأقل، حتى تم التمازج بطريقة التلقيح المشوه بين بعض الكائنات، وغدا الأمر كما يقول عوض القرني: «إن الصحوة في السعودية سلفيو الإخوان، أو إخوان السلفيين»، هذه الجزئية من النظرية الصحوية، ولدت تمازجات مشوهة كثيرة أخرى، آخرها «الصحوي الجديد» أو «الصحوي اللاصحوي»، وهذا مسبوق بوجود «الصحوي المنفتح» و«الصحوي المدني» و«الصحوي التنويري»، إلى آخر القائمة التي لا تنتهي، وكدليل على صدقية مسألة التكيف والتلوَّن في النظرية الصحوية: استطاع الصحويون السابقون الوصول إلى رموز ثقافية كبيرة كانوا في ميزان الصحوة كفرة ومارقين من الدين، وكسبوهم في صفهم، واحتووهم حتى باتت تلك الرموز الثقافية هي من ينافح عن الصحوة وبعض نظريتها بطريق غير مباشر، ولإثبات صحة هذا الأمر، وكمثال من ضمن عشرات الأمثلة، عودوا إلى الوراء بضع سنين فقط، وتابعوا تحركات بعض الرموز الصحوية، وافحصوا علاقاتهم، وصداقاتهم الجديدة وقتها. «الصحوة السابقة» اليوم بدأت بالتلاشي، ولا تجد لها حضورًا إلا في مجاميع «الواتس أب»، وحتى هذا الحضور سينتهي مع الزمن، ومع هذا يجب الحذر الشديد من القول «بموت الصحوة»، والمطلع البسيط يعلم أن جماعة الإخوان المسلمين في مصر، انتهت تمامًا وتلاشت من على السطح لأكثر من خمس عشرة سنة على الأقل من أول عهد الرئيس جمال عبد الناصر بالرئاسة المصرية سنة 1956، وحتى عام 1971، وحتى في عهد الرئيس حسني مبارك، لم تقم لهم قائمة، ومع ذلك ظهروا من جديد، وتسلموا الحكم كما كانوا يحلمون ويخططون، ولأنهم أغبياء لا يفلحون إلا في المؤامرات والشغب، لم يستطيعوا الاستمرار على رأس الحكم والدولة. ولن أدخل في تفاصيل سؤال مهم، هو: أين كانوا كل تلك المدة؟! وأتركه لفرصة أوسع، ولكني سأوجز في نقاط سريعة أهم عوامل بقاء النظرية الصحوية في السعودية: أولًا: قيادات هاربة في الخارج حرة الحركة والقول. ثانيًا: سند استخباراتي من دول إقليمية إضافةً إلى السند التنظيمي من الجماعة الأم. ثالثًا: تحالفات كبيرة مختلفة. رابعًا: تجارة كبيرة مشروعة، وأخرى غير مشروعة عابرة للقارات والحدود. وأشير وبإيجاز أيضًا، إلى أن «الصحوة الارتدادية» تنطلق من «الصحوة العميقة»، ومن تموضعات «الصحوة العميقة»، والتي أهمها: 1. الصحوية في المؤسسات الرسمية. 2. الفتوى المائعة، التي تجيز ما لا يخطر على البال. 3. شبكات العمل الحركي المنفصلة (كجماعة أو خلية). 4. برامج الإعلام الجديد، وهذه أخطرها. ومن تمظهرات الصحوة الارتدادية: 1. الصحوي اللاصحوي (كفرد). 2. التشدق بالوطنية حد الشوفينية، في تكلف ممجوج وقميء. 3. التمسح والالتصاق برؤية المملكة 2030. 4. البعد التام عن فكرة ونظرية «الحل الإسلامي» على الساحة السعودية، والتي طالت كل شيء: (الأدب الإسلامي)، (الشباب الإسلامي)، (الخطاب الإسلامي)، (المنظور الإسلامي)، (الشريط الإسلامي)، (الكتاب الإسلامي)، (المخيم الإسلامي)، (العباءة الإسلامية)، (الثوب الإسلامي)، وكل هذه المصطلحات اختفت اليوم من المشهد الثقافي السعودي، وستتفاجأ أن من أخفاها هم الذين أوجدوها ابتداءً، لأنهم بكل بساطة لم يعودوا يطرقونهم وتركوا ذكرها، احتماء خلف اللاصحوية. أخيرًا، «الصحوة الارتدادية»، هي اللاصحوة، وللحديث بقية.