استمرأ المحللون للشأن اللبناني تلك العبارات التي تحتمل التأويل، واجتهدوا بمسك عصا التشاؤم من منتصفها الكئيب، فقالوا إن لبنان يسير نحو الانهيار، وأنه ما زال يتربّع على شفا الهاوية، لكنّ سُحُب الشلل الاقتصادي قد غدت تمطر وبغزارة، وأشباح الفقر والجوع والمرض قد أنبتت وحوشا لا تبقي ولا تذر، فأصبح بلد الأرز والثقافة والجمال يفتقد لقمة العيش، ويئنّ وهو يسقط في مستقبلٍ أقل ما يوصف به بأنه مجهول. هناك من يقول بأن لبنان يحتاج إلى سياسة متكاملة لحل مشكلاته، ولكن متى وكيف سيأتي ذلك الغمام الأبيض المأمول! بينما رئاساته الثلاث تترنّح بين فشل الخيارات وانعدام الرؤى وزوبعة الاستقطاب السياسيّ والطائفيّ الداخليّ والإقليميّ. وهناك من يرى ضرورة إزاحة جميع أو معظم الزعامات السياسية والحزبية اللبنانية، واستبدالها بعصبةٍ من التكنوقراط الأكفاء، ولكن هل ستقبل تلك العروش التقليدية بالترجّل عن بروجها وخنادقها من أجل إنعاش لبنان المريض!. وهناك من يجزم بأن ترياق لبنان لا بد وأن يأتي من خارجه إلى داخله، من باب التسليم بأن غياب مفاتيح الأبواب اللبنانية ما هو إلا نتاج حزمة معقدة من الصراعات الإقليمية الشائكة، ولكن كيف سيتخلّق ذلك الانفراج في بقعة ترقد من تحتها براكين المصالح الضيقة والتدخلات السافرة!. ثم هناك وهناك من امتهن التنظير الدستوري بأن أهان الدستور، وأغرق لبنان في نيران غيره، وهو لا ينفكّ عن ادعاء تقبّل سياسة النأي بالنفس لحماية لبنان من شرر غيره. وهناك أيضا من لا يريد أن يدرك حقيقة أن لبنان يريده البعض ساحة عصماء لدسّ العصيّ وعضّ الأصابع بعيدا عن أفنية بيوتهم النظيفة!. ما فائدة تلّون الأفرقاء اللبنانيين إذا كانت بيوتهم بلا إنارة تسقط على ذلك اللون الأصفر أو الأزرق أو البرتقالي؟!، وما جدوى رفع الشعارات الملتهبة والخُطب المزلزلة والوعود الحالمة، إذا كانت القلوب والأنفاس والرفوف خاوية؟!. ومتى سنعرف أن قذيفة الكاتيوشا ستكون تائهة وعبثية إن لم ترتكز على علبة حليبٍ، شعارها الأرز وتلامسها أنامل طفلٍ لبنانيّ يبتسم للحياة؟!.