من أصعب الكلمات على الفهم والإدراك كلمة الحب التي يلتبس على الإنسان الوعي بها، بين الحاجة إلى إشباع ماديته وإدارة مشاعره والتحكم في رغباته وتوجيه مخرجاتها. عانى الإنسان صراع سُلطة الحب، وضبط جماحه بين النرجسية الأولية التي وُلد بها، وهي حب الذات من خلال رغبته في تملك كل ما حوله، وأن يكون محور الاهتمام والرعاية والتفوق. وتشتد أنانية الفرد في عدم السماح لغيره بالمشاركة في إدارة الموجودات والاستفادة منها، أو التعاون معه في تقاسمها، وبين النرجسية الثانوية التي تعني حُب النفس من خلال الحصول على حبّ الآخرين، وإدراك أنه لا يمكن له البقاء والحصول على الأشياء والتمتع بها إلا من خلال التنازل، وإتاحة الفرصة للآخرين للمشاركة معه في المنفعة المتبادلة. فالأساس أن الطفل منذ ولادته ونشأته يُحب ذاته ثم يتعين عليه أن يتعلم من التربية والإعداد، التنازل عن أجزاء من حبه لذاته وتوجيهها للآخر، كي يأخذ منه مقابلا لهذا الحب، سواء كان المقابل ماديا أو معنويا، وهنا يبدأ الصراع في عملية التحول التدريجي من النرجسية الأولية إلى الثانوية نظرا لعدم وعي الفرد والمجتمع بفلسفة التربية السليمة، والتوازن بين حب الذات والآخر، وعدم الوقوع في الاختلال. لقد طرح الله -سبحانه وتعالى- سمات الذين يُحبهم وحدد أصنافهم ممن استطاعوا التغلب على نرجسيتهم الأولية، ووصلوا إلى مراتب النرجسية الثانوية، (واللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) آل عمران 146، (وأَحْسِنُوا إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِين) البقرة 197، (إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ) آل عمران 76، (وأقْسِطُوا إنَّ اللهَ يُحِبُّ المْقُسِطِينَ) الحجرات 9، (إنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)البقرة 222، (إنَّ اللهَ يُحِبُّ المْتُوَكِّلِينَ) آل عمران 159، (إنَّ اللهَ يُحِبُّ الذَّيِنَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيِلِهِ صَفَّاً كَأنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصْ) الصف 4، (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) آل عمران 31، والعديد من الآيات التي تتصف بالبذل والعطاء والتضحية نحو الآخر (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) الإنسان 8، وفي مقابل ذلك حدد الله صفات الذين لا يُحبهم والذين ثبتوا في نرجسيتهم الأولية وطغوا فيها ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ البقرة 190، ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ الشورى 40، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ لقمان 18، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ القصص77، ﴿ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ الروم 45، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ الحج 38، ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ الأعراف31، ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِين﴾ النحل 23، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ القصص 76. أهم تحدٍّ أمام وجودنا وسعادتنا النفسية في الحياة، هي قدرتنا على بناء قِيم الحب وجماله بجميع أنواعه في كل زاوية من ذواتنا وخارج محيطها، ويكون واضحا في مخرجات سُلوكنا وعلاقاتنا ضمن مشروع مواجهة نزعة الصراع الداخلي نحو كل ما هو فضيلة يُحبها الله، وكل رذيلة وأنانية يمقتها ويسخط منها، فالفارق بين مفهوم الحب وعكسه هو في طريقة توجيهه والتحكم فيه، فلا فائدة في عمل أو عبادة لا يكون ناتج طاقتها الحب نحو الذات والآخر كيفما كان. فمعيار حُب الله لنا من خلال ما نُعطي طاقة الحب لكل مخلوقاته وموجوداته، والخسران المُبين بما نهانا عنه مما لا يُحبه في أدائنا وسُلوكنا تجاه أنفسنا والآخرين، وأن العارفين بمقامات الحب، والسالكين طريقه، هم القادرون على تمييز جمال الألوان في اللوحة الفنية التي رسمها مُحي الدين ابن عربي، والتي استلهم طاقتها من بديع الفطرة، وجعل منها مصباحا يُضيء قلوب المحبين، ويحيط ويتسع بكل التوجهات والمرجعيات، لأن الحب هو جوهر الدين والإيمان: لقدْ صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ... فمَرْعًى لغِزْلاَنٍ وديرٌ لرُهْبانِ وبَيْتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ... وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ... رَكائِبُهُ فالحُبُّ ديني وإيماني