قرَّرت بَغْتَة -في منتصف الأسبوع المنصرم- أن أحضر فيلما في السينما، وكانت تفصلني عن أقرب صالة عرض قرابة 135 كلم (ساعة ونصف الساعة تقريبا)، لكن هذا لم يثنني عن قراري، وبعد أن ابتعت التذاكر إلكترونيا داهمت سيارتي على الفور وأمسكت مقودها في الهزيع من تلك الليلة. من الأحساء، يمَّمت وجهي شطر النخيل مول في الدمام حيث صالة العرض. بلغت عتبات ذلك المُجمَّع التجاري الحديث في عمره والعصري في طرازه، وأصبحت على مقربة من مشاهدة فيلمي الذي انتخبته Bad Boys for Life. التنظيم والحفاوة والمبادرة من لدن العاملين في السينما ومرافقها تجعلك مشدوها، تجد نفسك تقف على مسافة واحدة من الذكور والإناث الذين بدورهم يتسابقون في تقديم الخدمة المميزة لك بوجوهٍ تعلوها ابتسامات مشعَّة، تشعر لوهلة أنك مُحاط بثمّة أشياء مختلفة لم تألفها من قبل. عبارات الترحيب التي تحتضنك حين وصولك للسينما كأطواق ياسمين، وعبارات التوديع التي ترافقك عند مغادرتك أشبه بنَيَاشِين، الموسيقى الناعمة التي تطاردك حيث ذهبت، بل تداهمك حتى وأنت تختبئ خلف جدران دورات المياه التي تُبهِرك هي الأخرى بمستوى العناية بها. قبل بدء الفيلم، ثَمَّة شعور ينتابك وأنت ترتمي في أحضان ذلك المقعد الوثير المكسو بالجلد الفاره يدفعك لاستنطاق الأشياء من حولك، لتجيبك: (نعم، أنت في وطنك)، وثمّة إحساس يجتاحك وأنت تستقبل تلك الشاشة العملاقة التي تختطفك من على مقعدك وتأخذك إلى أعماقها وأنت مندمج مع فيلم في غاية الإثارة من بطولة نجمين ساطعين هما ويل سميث ومارتن لورنس. قد لا يكون هذا المزيج من المشاعر التي تراودك لمجرد حضورك فيلما في سينما، بل لأنك قفزت إلى دائرة حسابات أبعد من ذلك بكثير، فأبسط ما تُفكِّر به حينها أنك متواجد في مكان مختلف وتعيش لحظة مختلفة في وطن مختلف. لا ريب أن صناعة السينما في السعودية ستفضي إلى تحسين جودة الحياة وتعزيز وتنويع مصادر الدخل الوطني عبر زيادة الوعي الثقافي من خلال تعدّد الخيارات الترفيهية المطروحة، حيث ستسهم في خلق فرص استثمارية واعدة تنجُم عنها فرص وظيفية عديدة للشبان والشابات، وزيادة الناتج المحلي الإجمالي، وكذلك زيادة مستوى الإنفاق على الناتج المحلي، فالسينما تعتبر خيارا ترفيهيا مهمًّا للطبقة المتوسطة وأصحاب الدخل المتدني غير القادرين على الترحال، ولا ننسى الأطفال الذين يُشكّلون شريحة مهمة من مرتادي السينما لمشاهدة الأفلام المخصصة لهم. كل المؤشرات تشي بأن السينما ستغدو جزءا مهمًّا من الثقافة السعودية العصرية، فمنطقة جدة التاريخية تستعد لاستضافة الدورة الأولى من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي المُزمع انعقاده خلال الفترة 12-21 مارس المقبل، والذي يعدّ الأول من نوعه في تاريخ المملكة، وهو واحد من ضمن 27 مبادرة أعلنت وزارة الثقافة عن تبنيها في 27 مارس 2019، ويهدف إلى دعم قطاع الأفلام في المملكة وإثراء المحتوى السينمائي المحلي، فضلا عن مبادرات مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) التي تصبّ في المجرى ذاته. السعودية ليست حديثة عهد بدور السينما، فقد دخلت إليها منذ ثلاثينات القرن الماضي عن طريق بعض الخبراء الغربيين الذين وفدوا للبلاد بغية العمل في شركة «أرامكو» حينما كان اسمها آنذاك «شركة كاليفورنيا العربية للزيت»، وأدخلوا السينما إلى مجمعاتهم السكنية المغلقة في مدينة الظهران، واستمر الحال حتى بداية السبعينات الميلادية التي افتتحت خلالها الصالات السينمائية عبر الأندية الرياضية على وجه التحديد وكانت للرجال فقط، وفي بعض السفارات الأجنبية والبيوتات الشهيرة، خصوصا في جدة والطائف ولكن بشكل عشوائي مفتقدة للتنظيم والتهيئة اللازمة للمشاهدة، حتى تم إغلاقها لاحقا بشكل نهائي. وقد أشار الناقد والمؤرخ السينمائي الفرنسي جورج سادول في كتابه الشهير (تاريخ السينما في العالم)، إلى اتفاقيات أجراها الملك فيصل -رحمه الله- عام 1966 إبّان افتتاحه التلفزيون مع شركات أمريكية لبناء شبكة من دور السينما ليرتادها السكان العرب. أخيرا، لم أكن من أوائل الناس الذين عاشوا تجربة السينما الحديثة في السعودية -لأنها بدأت بافتتاح أول دار عرض في 18 أبريل 2018 في العاصمة الرياض- لكنني بالتأكيد ضمن حزمة الذين استمتعوا بهذه التجربة الفريدة، وعاشوا ذات الشعور الماتع، فبعد أن كانت السينما أمرا عصيا مرتبطا بالسفر للخارج، ها هي اليوم أصبحت أمرا متاحا مرتبطا بالثقافة المحلية.