عندما تكتب طفلة لم تتجاوز العاشرة من عمرها على أغلفة كتبها المدرسية (وطني لو شغلت بالخلد عنه.. نازعتني إليه في الخلد نفسي)، وتكتب: (بلادي وإن جارت عليّ عزيزة.. وأهلي وإن ضنوا عليّ كِرام)، دون أن تدرك ما يحمله البيتان من معان نبيلة، تكتبهما فقط لأنها تسمع والدها يرددهما دائما في مجلسه بين الكبار والصغار، ويستشهد بها في كل موقف يحتاج فيه للاستشهاد بهما، تكتبها لأنهما يشتملان على كلمات تشعرها بالدفء والأمان والقوة (وطني، أهلي، بلادي)، ثم تسأله فيما بعد عن معناها فيشرحها لها بإسهاب شرحا تكاتفت فيه حكمته وعلمه ونبرة صوته لإيصال فكرته، ولتخلق في قلبها للوطن شمسا لا تغرب، وللأهل حبا لا يغيره الزمان. تلك الطفلة كانت أنا، عندها غُرستْ في قلبي بذور الحب الأولى لهذا الوطن، وبطريقة لا يمكن لكائن من كان أن يقتلعها، وسُقيت بماء الوفاء حتى شبّت تنفي عنه كل مذمّة وتنسب إليه كل مكرمة، ولا ترى إلا محاسنه، ولا ترضى عنه بدلا. نعم عندما كان الآباء والأمهات يتلون على مسامع أبنائهم أوراد الولاء للأرض وترانيم عشقها ليل نهار، ويزجرونهم عن كل تلميح مُشين أو تصرف معيب ضدها، شب الأبناء أباة لا يساومون وأحرارا لا يُستعبدون. هذه الأرض التي تعلمنا من جبالها وسهولها أن الكرامة لا تباع، والعرض لا يدنس، والهوية لا تستبدل، والجباه لا تركع لغير خالقها، وأن الضيف لا تغلق دونه الأبواب، والجار لا يُهان، والدخيل لا يضام، والتضحية لا تنتظر المقابل، والغريب لا يُنهر، والمحتاج لا يُذل. نعم لقد نشأنا لا يساومنا على مبادئنا أحد، ولا يجترئ علينا أحد. نشأنا نتعلم، ونبني، نرد وندافع بكل قوة، لا نسمع كلمة ضد بلادنا إلا وأبطلناها بعشر. إننا عندما نلوح لك أيها الوطن العزيز في يوم عيدك فإنما تلك قلوبنا تلوح لك لا أيدينا. وعندما نغني فتلك تراتيل لا أغاني، وحينما نمتن فهذا غيض من فيض عرفاننا. فماذا يريد المربي، أبا أو أمًّا أو معلما، وأيا كان من كلمة يرمي بها عابثا تسمم فكرا، أو تزرع كرها لهذه الأرض الكريمة؟ وماذا سيجنون سوى الفتنة، وعقول تهدم وأياد تبطش، وضمائر تخون. إن الوطن الذي ننتمي إليه لجدير بقوى عظمى من الحب والإرادة والإخلاص والحكمة والضمير تضعه في مكانه الذي لا ينازعه عليه أحد، وترفعه فوق كل صوت مناهض، أيتها الأرض الطيبة طبت وطاب ذكرك، وتبوأتِ منا منزلا لا تزلزله قلة ولا كثرة، ولا يهدمه فقر ولا غنى.