أحياناً تتعطل لغة الكلام بسبب كلمة مكتوبة أو عبارة قيلت، مثل التي قالها «إبراهيم أمان» وبلع ريقه ثم صمت ولم يستطع استنطاقه إلا الصحفي حسين الحجاجي عندما سأله: هل تعتقد يا عم إبراهيم أن بيعك لهذه الصناديق الخمسة من «الساردين» كفيل بتسديد ما عليك من دين؟! قالع عم إبراهيم بأقصر عبارة: ربنا يفرجها يا ابني. ومع ذلك لم تسقط دمعته، بينما لا بد أن دموعا كثيرة سقطت على صفحات الجريدة.. وعم أمان يتحدث عن رحلته الخمسين الطويلة مع التعب والعرق والشقاء، منذ أن جاءت شركة أخرى لتأخذ المقاولة في ميناء جدة البحري ويجد نفسه بعد خدمة مضنية في الشارع، لا يجد ما يسد به رمقه من قوته وقوت عياله غير الاستدانة، لشراء قارب صيد صغير يبحر فيه مع نجمات الفجر الأولى ولا يعود إلى أسرته إلا بعد المغيب بين المغرب والعشاء. ما هذا الكفاح والشقاء والتعب الذي يهد الحيل ليصطاد عم إبراهيم «شوية» سمكات يبيعها أحياناً على أول زبون يصادفه، ليذهب مسرعاً إلى منزله ليكحل ناظريه بأطفاله وأسرته قبل أن تستسلم أجفانهم إلى النوم، بعد أن طالت غيبته طوال النهار وجزءاً من الليل داخل أمواج البحر.. ثم ماذا؟ ثم فجأة يضطر أن يبيع القارب الذي اشتراه تقسيطاً، بعد أن جاءت شركة أخرى تكفلت بشؤون النقل، فلم يعد لهم كأصحاب قوارب صغيرة حق النقل ولا حتى الصيد الذي أخذت حق احتكاره «هوامير» القوارب الكبيرة، إلى درجة أنهم لم يتركوا لا ساقطة ولا لاقطة إلا أدخلوا أنوفهم فيها، حتى ما يتعلق بقوت الكادحين الغلابة. وكانت قمة المأساة عندما سأله الصحفي عن البيت الذي يسكنه مع أطفاله.. أتدرون ماذا قال؟ لقد قال: ليته يكون ملكاً لي.. ثم صمت قليلاً ثم أكمل: اسكت يا ابني ولا تقلب علي المواجع، كانت الفرصة أمامي ولكني لم أستغلها، وقد دفعت ثمن غلطتي هذه سبعة عشر ألفاً لإيجار المنزل الذي يؤويني وأسرتي. وكانت الكارثة الأكبر في حياة عم إبراهيم والتي لم يكن له ذنب فيها، عندما سأله الحجاجي عن تقديمه طلباً لقطعة أرض من أراضي المنح، وهنا أطلق زفرة تقطع نياط القلب ثم أجاب: تقدمت منذ خمسة عشر عاما بطلب منحة، لكنني لم أحصل عليها، فأردفت بطلب آخر مضت عليه سبع سنوات ولم أحصل على شيء حتى الآن. وكانت قمة الوفاء عندما فرط في بداية حياته في وظيفة المستقبل، عندما قبلوه ولم يقبلوا صديقه الذي تقدم معه في شركة بترومين في بداية عملها. أنموذج من الرجال العصاميين المكافحين الأوفياء، يندر أن يوجد مثيل لهم في هذه الأيام. لو لم تكن حقيقة ماثلة أمامي بشحمها ولحمها لقلت إن ذلك الصحفي فبركها من الخيال. عشت يا عم إبراهيم يا من جعلت من اللقاء معك طعما حقيقيا للحياة يا رجل. *1996