هل فشلت الحلول التقليدية "محاضرات توعوية، نشرات، إعلانات، ملاحقات أمنية"؟.. فذات الظاهرة التي تناقش كل حين ما زالت في تزايد، ولا جديد في الأمر سوى الأرواح المهدرة على الطرقات. فمع بداية اختبارات كل فصل دراسي، تُظهر لنا نشرات الأخبار، ومواقع التواصل الاجتماعي فاجعة جديدة ومأساة متكررة من مآسي "التفحيط"، وكان آخرها قبل أسبوع في مدينة الرياض، وتحديدا على الطريق الدائري الغربي، حين لقي شابان مصرعهما إثر حادث انقلاب سيارتهما، لتكون هذه الحادثة حديث المجالس والعالم الافتراضي. "الوطن" حاولت طرق المشكلة من جديد، أملا في إيجاد حلول عملية لمثل هذه المشكلة، بعيدا عن التنظير والمسكنات الموقتة. الحياة أرخص من "حادث" على الرغم من أن الإجابات بدهية، وربما مكرورة.. إلا أنه لا بد من سردها مجددا، فإجابة الشاب الذي يمارس التفحيط، على السؤال التقليدي "لماذا تفحط؟" هي الباب الطبيعي لفهم المعادلة، والانطلاق منها لبحث الحلول. فهنا يرد أحدهم – رافضا الكشف عن هويته - وهو يقول "أين تريدني أن أذهب فكل الطرق مسدودة بوجهي، فأنا منقطع عن الدراسة، بسبب رسوبي أكثر من مرة، وبحثت عن عمل ولم أجد من يوظفني"، وأضاف "أنا أحب رياضة السيارات، ولدي الموهبة، لكنني لم أجد إلا الساحات العامة والطرقات، لممارسة رياضتي وهوايتي". لا جديد.. هي ذات الإجابة التي كتبت في معظم التقارير الصحفية التي تناولت ظاهرة "التفحيط"، ولأننا لم نصل بعد لعلاج فعال لهذه القضية، نضطر كل حين إلى تناولها مجددا. الأمر لم يعد يحتمل بندر العتيبي، شاب آخر، يقول "شبابنا فيهم الخير والبركة، ويمتلكون الكثير من الطاقات والمواهب، التي لو استثمرت بشكل صحيح لكان لهم دور أكبر في التنمية المجتمعية"، وأكد على أنه في ظل غياب البدائل الحقيقية للتفحيط لن تُحل المشكلة. وطالب العتيبي بامتصاص حماس الشباب، واستثمار طاقاتهم من خلال إقامة أندية سيارات في كل منطقة، وإتاحة الفرص لهم في المشاركة في مسابقات متنوعة، تشمل كل أنواع رياضات السرعة والتطعيس، والتي من شأنها أن تساهم في معالجة ظاهرة التفحيط، مشيرا إلى أن الرئاسة العامة لرعاية الشباب هي المعنية بهذا الأمر كخطوة حالية، ويجب أن تعقبها خطوات جادة من كل مؤسسات الدولة وأفراده، "فالأمر لم يعد يحتمل أكثر من هذا" على حد قوله، وأضاف العتيبي "كمتابع لشؤون الشباب، أرى بأن التوعية بهذه المشكلة لم تعد تجد نفعا، ولا بد من وقفة حازمة على مستوى شعبي كبير، فشبابنا يُنحرون كل يوم على أرصفة الشوارع، ونحن نتفرج ونغض الطرف عن الحل". من جانبه شدد عضو اللجنة الوطنية لشباب الأعمال بالمملكة ممدوح شلال العنزي على سن قوانين واضحة لكل الظواهر الاجتماعيه، وقال "علينا ألا نعيش بظاهرة ردة الفعل"، لافتا إلى أن القيادة بشكل عام فن وأخلاق، والمفحط في لحظة التفحيط أخذ الفن وتجرد من الأخلاق وهذا فصل مهم بينهما، مناديا بإيجاد حلول للشباب لتفريغ طاقاتهم، من خلال توفير مكان مناسب ومجهز بكافة الاحتياطات الأمنية ووسائل السلامة، وتكون به منافسات رياضية غير التفحيط، على أن تتم إقامته بعيدا عن إزعاج الناس، مشيرا إلى أن ذلك لو تم ربما يمل المفحط ويهدأ لأنه كما تعلمون "كل ممنوع مرغوب". كما طالب العنزي ببدائل دائمة للشباب سواء للترفيه أو لتطوير مهاراتهم ومواهبهم مثل أندية السيارات وأندية المعرفة، وأندية مفتوحة للابتكار والمهنية وهكذا. الحل.. استثمار "ساهر" من جهته أكد مدير عام حلبة الريم الدولية لرياضة السيارات المهندس رائد أبو زنادة، أن الحل يكمن في مشروع قومي ووطني تتبناه الدولة لمعالجة هذه المشكلة، أسوة بما هو معمول به في دول العالم، وأضاف "في دولة كبريطانيا هناك أكثر من 400 ناد للسيارات، في مدينة لندن لوحدها منها أكثر من 100 ناد معترف به من الاتحاد الدولي لرياضة السيارات". ويردف "يجب إنشاء صندوق استثماري برعاية الدولة، يتم دعمه من مشروع ساهر كبداية، حيث يتم تخصيص مبالغ من إيرادات ساهر، لإقامة ميادين للسيارات في كل منطقة، تحتوي الشباب المفحط، وتقنن هذه الرياضة بشكل حضاري ومقبول". كما طالب أبو زنادة بتوفير مساحات كافية من الأراضي في كل منطقة، واستثمارها لإنشاء أندية للسيارات، لافتا إلى أن ذلك يحتاج إلى قرار رسمي من قبل الوزارات المعنية كوزارة الداخلية ووزارة الشؤون البلدية والقروية، إضافة لإمارات المناطق ورعاية الشباب في توفير هذه الأراضي، حيث إن إنشاء ناد للسيارات بشكل عملي يحتاج إلى مساحة لا تقل عن 500 ألف كم مربع. ويضيف أبو زنادة "للأسف ما نشاهده اليوم من آثار لمشكلة التفحيط، هو تراكمات ل20 سنة مضت بسبب إغلاق باب أندية السيارات وعدم الترخيص لها، وبالتالي فإن غياب تلك الأندية أثر بشكل كبير في اتجاه الشباب لممارسة هذه الرياضة الخطرة في الطرقات والشوارع"، مشيرا إلى أن نسبة الشباب في التركيبة السكانية كبيرة جدا، وهذا يدعو لتضافر الجهود في رعايتهم وتوجيههم التوجيه الصحيح، واستثمار مواهبهم وطاقاتهم، وقال أبو زنادة "بحكم قربي من هذا المجال، وجدت بأن الرئاسة العامة لرعاية الشباب مكبلة في هذا الجانب، ويجب ألا نلومها في التقصير وعدم اهتمامها برياضة السيارات والدراجات النارية بشكل أفضل مما هو موجود حاليا". لا نستطيع إلزام القطاع الخاص من جهته أكد مدير مرور منطقة تبوك العقيد محمد النجار بأنهم لا يستطيعون إلزام الشركات أو القطاع الخاص بشكل عام على دعم إنشاء نواد للسيارات، كاشفا عن وجود دراسة حالية بين مرور المنطقة وجامعة تبوك، لقامة أندية رياضية خاصة بالسيارات، بهدف الحد من مشكلة التفحيط واستثمار طاقات الشباب، وقال النجار: "ما زلنا ننتظر نتائج الدراسة، وعلى ضوئها سيتم التطبيق". وحول جدوى العقوبات الحالية بشأن التفحيط، أكد العقيد النجار على أنها رادعة، وقد وضعها النظام المروري بشكل مدروس، "لا زيادة فيها ولا نقصان". التفحيط.. سلوك شبه إدماني من جهته أوضح استشاري الطب النفسي الدكتور مصطفى عبدالعظيم أن ظاهرة التفحيط لها معان عدة عند التأمل فيها، والبحث عن أسبابها حيث إن بعض الشباب يمارسها، ليظهر موهبته وقدرته على الإبهار أو التعجيز لأقرانه، فهو يظهر شجاعة ومخاطرة، ويقوم بصنع سيناريو الخطر ثم تحديه والانتصار عليه، استجابة لإشباع حاجته إلى الشعور بالتميز وتحقيق الذات، ولكنه مع الأسف في مجال وهمي ومصطنع، وأضاف "سلوك المخاطرة يعتبر أحيانا سلوكا شبه إدماني لأنه يعطي إشباعا فوريا لحظة الأداء، والشعور بنشوة النصر والفوز الزائف، حيث يفرز المخ مادة النورأدرينالين، وبعض المواد الأفيونية التي يدمنها الباحثون عن النشوة" لافتا إلى أن مادة النورأدرينالين تعتبر من المواد الرئيسية للشعور بالمشاعر القصوى من الإثارة والرعب ومعايشة الخطر الداهم على النفس، حيث تدخل الشخص في حالة طارئة يرهبها كثير من الناس، وإذا استمرت معهم كما في اضطراب الرهاب والهلع تدفعهم للعلاج النفسي لإنهاء معاناتهم. وأردف عبدالعظيم "هذا السلوك الخطر على النفس والمال وعلى الآخرين، يمثل لبعض الشخصيات غير السوية مداعبة لمراكز الإدراك والحواس والمشاعر، كنوع من الاستثارة الحسية، وهي بالنسبة لبعض الشباب إثبات لذاته وللآخرين بالانتصار على الخوف". المفحط ينفس عن غضبه وأردف الدكتور مصطفى في معرض حديثه قائلا "نجد في اضطرابات الشخصية مثل الشخصية الحدية: الشعور شبه الدائم بالخواء الداخلي، والبحث عن الهوية السيكولوجية، فلا يجد سوى الفراغ النفسي والاضطراب الانفعالي وكره الذات، وبالتالي تصبح حياته ليست ذات قيمة كبيرة عنده" ويحلل هذه المسألة نفسيا بقوله "لذا يظل هذا الشخص في بحث دائم عن معنى ذاته ووجوده، فيبدأ بالتجريب والاختبار ليشعر بنفسه ويجرب شخصيته، ويرتاد المخاطر ويتهور دون مراجعة لأي شيء يرد على خاطره، فلا يشعر بالخطورة في هذه الأفعال كما يراها المشاهدون له، حيث إن لديه قصورا في تقييم ماهية ذاته وأفعاله والبيئة المحيطة به، ولا يعني له الحادث أو الإصابة أو الهلاك الشيء الكثير، فهو يرى نفسه في معاناة دائمة في حياته". ويردف أيضا "هناك بعض الشباب يرون في التفحيط، تنفيساً عن غضبهم من المجتمع بهذا السلوك المرفوض، فيعلن اعتراضه أو انتقامه بفعل ما يغضب المجتمع"، ويؤكد الدكتور مصطفى على أن من العوامل التي تزيد هذا السلوك "الإقرار الجماعي" بتجمع الجمهور للمشاهدة والثناء والمدح، ومن الشباب من يتبادل مقاطع الفيديو عن التفحيط وأنواعه وقضاء أوقات طويلة للاستمتاع بمشاهدته، مما يزيد هذا السلوك ويغذيه ويكسبه قيمة ويجعله سلعة مرغوبة وبابا للشهرة بين الأقران، ومادة للتسلية والانبهار، وتناقل الأخبار عن الجرأة والشجاعة والإتيان بما هو فوق الممكن والمعقول، فيصبح عند بعض الشباب سمة للرجولة "الزائفة" وشكلا للاقتداء.