لا نبالغ لو قلنا إن تاريخ الأدب العربي لم يعرف شخصية موسوعية كالجاحظ، في تنوعه وغاراته العلمية على شتى التخصصات، حتى يبدو -للمهتم بكتابات الجاحظ- أنه شخصية عصية على التصنيف، إذ يصعب وضعه ضمن دائرة من دوائر العلوم المعروفة. إن الجاحظ بكتاباته يعدّ إماما في البلاغة العربية ومؤسسا حقيقيا لها، وأديبا بارعا لا يُشقّ له غبار، ولُغويا فذّا لا يقل أهمية عن بقية علماء اللغة المعتبرين، وهو صاحب نظرية معتبرة في البيان والفصاحة، فتحت الآفاق المعرفية لمن جاء بعده، فليس من المبالغة القول إنه قد أخذ من كل علوم عصره بطرف، ولا مراء أن شخصية الجاحظ المركّبة قد احتلت مكانة مرموقة بين مفكري عصره. ومع كل هذا التنوع والغزارة في الطرح، ليس من الغريب القول إن للجاحظ اهتمامات فقهية، فهو رمز من رموز المعتزلة، حتى إنه أسس مدرسته الخاصة في عالم الاعتزال، والتي عرفت بالجاحظية نسبة إليه. ولا شك أن بحثه المتعمق في المسائل البلاغية خلال دراسته القرآن الكريم، وفهم ما فيه من ألوان التشبيه والمجاز والبديع، يعد إسهاما فقهيا معتبرا، فقد وضع كتابه «البيان والتبيين» لتأسيس نظريته البلاغية الخاصة في البيان العربي، حتى صار مرجعا يرجع إليه كل المهتمين بالبيان والبلاغة. فقد كان يسعى إلى وضع دراسة معمقة تستوعب البيان العربي وما يرتبط به من قواعد ومقاييس بلاغية. توصل إليها عن طريق الاستقراء الميداني لخطب وأشعار العرب. لقد قدم الجاحظ لعلم الفقه خدمة جليلة انعكست في اهتمامه البليغ بالخطاب القرآني وأساليبه البيانية، كون القرآن الكريم المصدر الأول من مصادر التشريع، فقد أخذ على عاتقه توضيح مكامن البيان والبلاغة في بعض الآيات القرآنية، وطرقها في توضيح المعنى. فالقرآن نزل بلسان العرب، وهذا يستوجب -بطبيعة الحال- معرفة تامة بأساليب العربية في التعبير. ولذلك امتد تأثير الفقهاء إلى الساحة البلاغية في سبيل دراسة قوانين البيان وتحليلها، وهذا ما يجعلنا نؤكد أن للجاحظ إسهامات فقهية تمثلت في تفسير جوانب البيان في الخطاب القرآني، فقد كان التركيز على وضع قوانين لتفسير الخطاب القرآني هو شغل الفقهاء الشاغل. فقد عاش الجاحظ في حقبة زمنية عانت فيها من أزمة التأويل، إذ كان التأويل سببا رئيسا للخلاف بين الفرق، وكان وسيلة لاذ بها البعض للتملص من النصوص، فقد كان التأويل بما يهيئ من صرف اللفظ إلى معنى آخر يحتمله، كان سببا لكثير من الخلافات الفقهية والعقائدية، وهذا ما جعل الاهتمام ينصبّ عند علماء البلاغة في دراسة الخطاب البياني للقرآن، للتوفيق بين اللفظ والمعنى وضبط العلاقة بينهما، والتحكم في قضية فوضى التأويلات المحتملة في سبيل وضع حدود وضوابط للتأويل. لعل الجاحظ -وبما يتصف به من ثقافة موسوعية جعلت آثاره العلمية من الغزارة والتنوع وتعدد المشارب وتداخل نواحي الاهتمام- كان دفعا لكل واحد من ذوي الاختصاص لتناوله من الجانب الذي يعني موضوعه واهتمامه. فكانت إسهاماته التي قدمها للفقه الإسلامي، خصوصا فيما يتعلق بالخطاب القرآني وجوانب البيان والبلاغة فيه، لا تحتاج إلى توضيح أو تبرير. لم يكن اشتغال الجاحظ بالساحة البلاغية عفويا أو اعتباطيا، فقد كانت اهتماماته في المجمل تنمو ضمن مناخ فكري وحضاري يتسم باختلاط الأجناس وتنوع الثقافات والشعوب، حتّمت العناية بالقرآن الكريم خطابا ونصا، وبما يحتويه من جوانب بلاغية وجمالية وصلت في ذروتها إلى البحث عن جوانب الإعجاز القرآني في أزمنة لاحقة اتخذت من كتابات الجاحظ منطلقا لها. لقد وضع علماء البلاغة -والجاحظ أبرزهم- نظرياتهم البيانية في سبيل وضع آلية محكمة للتأويل، ليؤدي وظيفته الإيجابية على الوجه المشروع في توسيع أفق معنى النص، ويسد الذريعة لاتخاذه مطية للتنصل أو تعطيل نصوص الشريعة.