للفكر العربي قصة ريادة طويلة، قصة متأصلة في جذور الثقافة الإنسانية من وحي جولات تاريخية شهدت صدامات حادة وتواجهات مرنة مع العديد من التيارات التي سادت الحضارة المعاصرة، لذا فقد ظل يمثل رافدًا حيويًا من روافد الفكر الإنساني. ولسنا هنا في وقفة مع هذا الفكر لتقييمه في أصالته وحداثته ومواقفه من القضايا البسيطة والشائكة، إنما نحن بصدد تلك العنتريات التي تسفه هذا الفكر وتعاديه وتقف منه موقف الضد، بينما هو البؤرة الأصيلة في هوية الذاكرة العربية التي يراد العصف بها وإحالتها إلى متاحف التاريخ. وبالطبع لا يعني ذلك غير البراءة من الذات بكل ما حملت من ثقافة وأفكار وقيم ومبادئ ونظريات ورؤى، وهو ما لا يتسق وجوده منطقيًا مع من يملكون طاقات الإرادة النهضوية أو مشاعل الفكر التقدمي أو من يؤرقهم البحث عن معادلات التغيير الجذري الدافع بالضرورة لتحولات إيجابية على صعيد الفكر والواقع. لكن بين آن وآن تزعم بعض الجماعات المنشقة عن السياق المجتمعي العام والتي لفظ الجميع كافة أطروحاتها، لكنها تدأب في تصدير شكوكها وهواجسها وتصوراتها الذاتية غير المستساغة علميًا أو فكريًا أو اجتماعيًا، بجانب كونها لا تملك مشروعًا فكريًا يقيل الواقع من عثراته، إنما لديها خطط تدميرية ترمي للنيل من المعتقد الإسلامي في إطار الفاعلية التي لا تألو جهدًا في السخرية من الفكر العربي والتراث الديني، وهو ليس من الفكر النقدي في شيء ولا علاقة له بالتنوير الذي يعني أول ما يعني تحرير العقل من أنماط التفكير الخرافي ومن كافة الآفات الرجعية. كم كان يجدر تحريك مسار التساؤلات نحو كيفية تصدي الفكر العربي للحروب الثقافية الدائرة في المحيط الكوني؟ وما هو الطابع التجديدي للفكر النهضوي الذي يرتجى بلوغه في هذه اللحظة المهيبة من تاريخ العالم؟ وإلى أي مدى يمكن أن يصارع في حلبة الثقافة الكونية؟ وما هي عثراته؟ وكيف يمكن اجتيازها؟ وكيف يمكن استلهام تلك الإشراقات النموذجية في مسيرة هذا الفكر؟ وما هي الإشكاليات الفكرية السائدة عالميًا؟ وكيف يمكن للفكر العربي الإسهام في تفكيكها؟ وكيف يتحقق الوجود الفاعل لهذا الفكر في إطار أجواء الصخب الفكري الساعي نحو تكريس الإمبريالية الثقافية؟ إلى غير ذلك من التساؤلات ذات الأولوية والتي تلقى دائمًا على عاتق من يشعرون بمسئولية الخوض في معترك الفكر العربي، بجانب أن الظرف المحلي والإقليمي والدولي يحتم بالضرورة أسبقية بناء العقول التي تنتج وعيًا جديدًا تستطيع معه بلورة الفكر وتجديده بما يحقق ارتقاء المنظومة المجتمعية، لكن وضع العربة أمام الحصان يدفعنا منطقيًا لأن نطوح بخيالنا نحو أشياء أخرى. إن محاولات تجديد الفكر العربي قد قادها منذ أكثر من قرن رموز كبار لهم ملكات خاصة، وحجية ذهنية، وثقافة موسوعية، ويقظة وعي، وصحوة ضمير، ورؤية ثاقبة، وحضور طاغٍ، ومنطق سديد وإيقاع لغوي محكم، وأسلوب متفرد ومعالجات موضوعية. ولن ينسى تاريخ الثقافة قامات شامخة تفانى أصحابها في إثراء الفكر العربي يتصدرهم "د. زكي نجيب محمود" بما خطه من ملاحم بدأها (بتجديد الفكر العربي)، (ثقافتنا في مواجهة العصر)، (هذا العصر وثقافته)، (تحديث الثقافة العربية)، (المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري). وما سجله "د. لويس عوض" عن تاريخ الفكر المصري، و"محمود أمين العالم" في أطروحته عن الثقافة المصرية، و"د. حسن حنفي" في موسوعته (هموم الفكر والوطن)، و"د.فؤاد زكريا" في (الإنسان والحضارة) وقبل هؤلاء "سلامة موسى" في كتابه الرائد (حرية الفكر). وتمتد القائمة لما هو أكثر من ذلك... تمتد لتشمل تجليات "د.طه حسين" في كتاباته عن (مستقبل الثقافة في مصر)، (قادة الفكر)، وغير ذلك من الدرر الثقافية التي ازدان بها الفكر العربي. لكن الأحفاد يصرون على أن يتفاضلوا عليه، بينما هو لا يزال يمثل سلطة ثقافية ورمزًا فكريًا شامخًا عبر صوته عشرات الأجيال، وكان عنوان عصر بأكمله، وبالطبع ليس في حاجة لعرفان أو نكران وجحود. لكن جوهر القضية إنما يكمن في إسقاط الاعتبارات الأدبية والمعنوية وتجاهل الفروق الهائلة، بل المروعة بين الأشخاص، وإغفال القيمة العلمية وادعاء المساواة معهم؛ بل والزعم بالتفوق عليهم، كل هذا بالطبع لا يمكن أن ينتمي بحال إلى توجه ثقافي أو فكري؛ لأنه يعتمد مبادئ سلبية أولها العلوية وتجهيل الآخر. فإذا كانت هذه هي الآلية الرعناء في نمط بعض الجماعات فكيف تقوى على التصريح بإعادة صياغة الفكر العربي، وكأن هذا الفكر مبتور منقوص، في حاجة ماسة لاستكمال بنيانه، أو في حاجة لبناء آخر غير ما هو عليه، وهو ما يعني نسف كافة أركانه، وإقامة فكر بديل ذي تكوين خاص، قائم على الأهواء والميول والنزعات، ليست له مرجعية تاريخية، ومن ثم لا يعبر عن هوية الأمة. وعلى ذلك تظل مثل هذه الجماعات مدعومة بوعي رجعي لا يسمح لها بالوقوف على عمق المفاهيم التقدمية المتداولة في الساحة الثقافية، ومن هنا يسقط الحق في المطالبة بأي تجديد للفكر العربي، ما دامت لم تستطع أن تبرئ ذاتها من ذلك الداء الوبيل نقلا عن بوابة الاهرام المصرية