هناك إشكالية مرتبطة بمصطلح "أصيل"، فهل هو المرتبط بالجذور أم هو الجديد غير المسبوق؟ هذا التعريف لمعنى "أصيل" لم يتطور في الفكر العربي المعاصر، فأغلب من يتحدث عن "الأصالة" يشير بشكل أو بآخر إلى الماضي البعيد أو القريب ولا يتعرض للإبداع والابتكار على أنه "أصالة"، وهو ما يعكس إشكالية تعامل العقل العربي مع التجديد بشكل عام، فكل جديد هو "مبتدع" أو "بدعة" غير مرغوب فيه وليس "أصيلاً" أو يعبر عن "أصالة الفكرة". بالتالي فإن كل فكرة جديدة تحوم حولها الشكوك وتجد من يرفضها أكثر من الذي يؤيدها. هذا لا يعني أبداً أن يكون همنا الوحيد هو البحث عن الجديد دون إعطاء هذا الجديد فرصة كي ينضج ويتطور ويتحول إلى منتج يساهم في بناء الحضارة الإنسانية. البحث عن الجديد، أو "ثبات الأفكار المؤقت"، يمثل أحد أركان التراث الموازي الذي يخاطب المستقبل، فالأصالة بالنسبة لهذا التراث هي البحث عن التجديد، أي الإبداع والابتكار، لكنها أصالة تتطور في مفاهيمها من الجذور الأولى وليست من التفسيرات والاجتهادات التاريخية التي فسرت تلك الجذور. أرى أنه من الضروري تقديم مصطلح "الأصالة" في هذا القالب الذي يجعلنا نفكر إلى الأمام وليس للخلف، خصوصاً مع هذه التطورات التقنية غير المسبوقة التي تجعل التفكير للخلف يضعنا في مؤخرة الأمم، هذا يجعل مصطلح "المعاصرة" لا معنى له، فالأصالة تعني "المعاصرة في أقصى درجاتها" والتي تستعد أصلاً للانتقال إلى "شكل" أو "فكرة" أكثر معاصرة، هذا التصور للأصالة في جوهره سيكون هو الدافع إلى الفضول المعرفي الذي يحتاجه عالم اليوم بشدة. هذا لا يعني أن التفكير في الأصالة بمعنى "الجديد غير المسبوق" لا يخلو من إشكالات عدم الاستقرار وعدم النضج، ففي العمارة التي ترتكز في جوهرها على التجديد المستمر يشير "ويني ماس" Winy Mass في كتابه (مع آخرين) "النسخ واللصق" إلى أن المعماريين المعاصرين يعانون من "متلازمة الأصالة" Syndrome of Originality، وهو هنا يقصد أن الأصالة ليست هي الجذور أو العودة للتاريخ، بل تعني كون التصميم غير مسبوق وجديد وغير متوقع، ويرى أن هذا السباق المحموم نحو التجديد الدائم يجعل من العمارة ظاهرة غير مستقرة. يبدو أن هذه الملاحظة ارتبطت بعمارة الربع الأخير من القرن العشرين بشكل أوضح من الفترات السابقة، وأنه منذ ذلك التاريخ وهي في حالة تسارع كبير، حتى أن فكرة "الطراز" في ظل هذا التسارع نحو التجديد لم يعد مجدياً. ويبدو أن هذه الملاحظة موجهة كذلك إلى ظاهرة تراجع المدارس الفكرية التجديدية في العقود الثلاثة الأخيرة نتيجة لعدم تطور معايير يتوافق حولها المعماريون تحدد توجههم الفكري المشترك. ومع ذلك يجب أن نعطي العذر للمعماريين الذين وجدوا أنفسهم تحت ضغوط كبيرة من أجل البحث عن الجديد بوتيرة تفوقت على التجديد في العقود السابقة مما جعلهم تحت تهديد مستمر للخروج من السياق المهني العالمي الذي بات يهتم فقط بما تقدمه العمارة من أفكار جديدة حتى لو لم تكن أفكاراً ناضجة. يعتقد البعض أن سبب خفوت الأفكار العظيمة، التي ميزت النصف الثاني من القرن العشرين، كان نتيجة للتنافس حول الأصالة، بمعناها التجديدي، إذ لم يعد هناك فرصة لأي فكرة كي تنضج لأن السائد هو البحث عن الجديد. قد يكون هذا أحد الأسباب، لكن يرى آخرون أنه لم يعد هناك أفكار أو ابتكارات جديدة يمكن أن نقدمها للعالم، فقد تم اكتشاف كل شيء، وأن ما تبقى هو الأفكار الوظيفية التكميلية. لعل هذا النفس السلبي يؤكد أن المبالغة في التجديد أمر قد لا يقود إلى مزيد من الإبداع بقدر ما قد يقود إلى تطور ظاهرة "الأفكار غير المكتملة"، وهو أمر بدأ يلاحظه كثير من المهتمين بالأبستمولوجيا التي تعني "تطور العلوم" أو المعرفة. يمكن أن نتوقف عند القول إن لكل مصطلح، يمكن أن يصنع ظاهرة معرفية، "ميزان" وأن المحافظة على هذا الميزان يعني بشكل أو بآخر إبقاء تطور المعرفة في مسار تصاعدي مستمر. من الواضح أن مصطلح "متلازمة الأصالة" يحمل نفساً سلبياً يجعل من مفهوم الأصالة بمعناها الابتكاري المتسارع، غير مرغوب فيه، إلا أن هذا لا يعني عدم تأييد معنى خلق الجديد، بقدر ما هي رغبة في ترشيد المعنى وعدم المبالغة في البحث عن الجديد. في اعتقادي إن الأصالة المرتبطة بالثبات المؤقت للأفكار تعطي الجديد فرصة للتطور والنضج وهو ما يهدف له "التراث الموازي"، ثمة اتفاق على أن تجديد المصطلحات، أو البحث عن معانٍ جديدة للمصطلحات القديمة التي صنعت إشكالات فكرية وساهمت في عدم تطور التفكير، يعتبر حالة تصحيحية للفكر السائد، وأعتقد أن الفكر العربي المعاصر بحاجة إلى مثل هذا التصحيح بشدة. نقلا عن الرياض