منذ خمسين سنة مضت كانت النافذة التي نطل منها على الثقافة العربية اإلسالمية العريضة ضيقة إلى حد الانغالق الذي لا يتسع لمجال النظر إلا من ثقب خط مستقيم ينطلق من نقطة حددت بعناية إلى ما ارتضاه الناظرون من هذا الثقب الثقافي وما اختاروه بدقة وحرص شديدين على ألا يطلع الناس وألا يعرفوا غير ما ارتضاه المؤهلون وقبلوا به. لذا جهل الناس عمق ثقافتهم وتعددها وتنوعها ومساحة الاختالف فيها التي تبلغ درجة التعارض في بعض الاحيان حتى أصبح الانتقاء والاختيار للرأي الواحد في الفقه وفي التاريخ وفي الادب وعموم الثقافة عندنا حقيقة مطلقة لا يمكن مناقشتها ولا مخالفتها بل يظن الكثير أنه لا يوجد قول غير ما قيل ولا اجتهاد غير ما تقرر. ليست هذه المشكلة وليست هي القضية التي نتحدث عنها؛ فالناس يحفظون )يد الله مع الجماعة(، المشكلة حدثت عندما اتسعت دائرة الرؤية إلى ما كان محجوبا من محيط هائل من التراث المعرفي العربي والاسلامي وفتحت مغاليق الثقافة وأبوابها على كل مصاريعها بلا استثناء، وهي لا شك تحمل شيئا كثيرا لم نألفه ولم نطلع عليه، كان الملبس وحده الذي يخالف ما نلبس إثما وممنوعا ومحرما تحت بند التشبه بغير المسلمين، وقد أحصى أحد رجال الدين كما قال عشرات الممنوعات ليس فيها نص واحد يحرمها غير العادة والتقاليد المحلية. وقد أوقعت سعة الموروث وتنوعه وتعدد الاجتهادات المثقفين في التناقض حين فتح الباب للنظر إلى محيط الموروث الثقافي، فالمسألة الواحدة يجد الناظر فيها عددا كثيرا من الاقوال التي يضرب بعضها بعضا ويختلف بعضها مع البعض الاخر. ولعل قضية واحدة سنوردها تبين مدى الاخنلاف والتنازع وهي تهنئة أهل الكتاب بأعيادهم، هذه القضية وحدها تصلح مثلا لما يحدثه الجدل حول الاباحة والتحريم، وهي تصلح مثال أيضا لانها تتكرر كل عام ومعها يتكرر الجدل الذي لا يخرج عن دائرة المسلمين بينهم، فمن يرى جواز التهنئة لغير المسلمين بأعيادهم يعمد إلى التراث ويختار منه ما يسعفه ويؤيد رأيه فيجد بضاعته موفورة مكنوزة تعزز رأيه وتقويه، ومن لا يجيز ذلك يعمد إلى التراث نفسه أيضا ويجد فيه بابا واسعا يؤيد ما يقول ويصدق ما يعمل. ولأن أعياد الميلاد تتكرر كل عام فإن الجدل في الموضوع نفسه يتكرر وتتكرر الاستعانة بالتراث مرة تلو المرة، ولم يقنع أي من الطرفين الآخر بحجة فاصلة، فمرجعية التراث الذي يورده كل طرف حكم فاصل عند من يراه ويأخذ به. جواز التهنئة بعيد الميلاد أو منعها يمثل مئات القضايا والمشكالت التي تواجه المسلمين في مذاهبهم وآرائهم واختلافاتهم بينهم، واختلافهم تنعكس على ملايين المسلمين الذين يعيشون في الغرب ويعملون فيه ولهم صالتهم ومعارفهم وزملاؤهم من المجتمع الذي احتواهم، وهنا تكون المعضلة عندهم أكثر تعقيدا وأشد حرجا لهم وللثقافة التي ينتمون إليها، لا شك أننا بحاجة إلى التجديد والمراجعة للموروث واعتبار الواقع الذي يعيشه العالم والمسلمون جزءا منه ولا يمكن فصله ولا عزله عما حوله وما يحيط به. نقلا عن مكة