الفهم السائد لدى كثيرين أن ما في المناهج الدراسية وما في كتب الفقه والتفسير وشروح الحديث وما يتداول في الساحة الدعوية والفكرية هو الدين، والحق أن الدين كنص مقدس يقتصر على الوحي، وما أضيف للنص من تفسيرات وشروح وآراء واجتهادات جهد بشري خلفه الأسلاف لمن بعدهم لا قدسية له، والخلط بين الأمرين يورث خللا فكريا ثم عمليا، يتضح أثر ذلك الخلل فيما نعانيه في واقعنا المعاصر، من نتائجه الصراع الفكري القائم بين المسلمين نشأ وترعرع من خلط التراث بالوحي حتى أصبح التراث الموروث عند عامة المسلمين في مرتبة نصوص الوحي بل أكثر من الوحي عند المتعصبين، فالمذاهب والجماعات الدينية والتيارات الإسلامية بنت أصولها الفكرية ومفاهيمها على أطروحات تراثية وليس على نصوص الوحي، ويزداد ذلك وضوحا في ردود هذه المذاهب والتيارات والجماعات على المنشقين عنهم أو المعارضين لهم، ويظهر ذلك في الفتاوى والخطب والمؤلفات السائدة في الوسط الإسلامي، حيث تمثل انعكاسا لاجتهاداتهم وآرائهم ومواقفهم المتسلسلة ولا تمثل حقيقة نصوص الوحي. إن كثيرا من الناس بحاجة ماسة للتفريق بين التراث والوحي لئلا يقعوا في خلط بينهما يورث خللا في الأذهان والأفكار ثم في الواقع الذي يعيشونه. فكل اجتهاد بشري يحتمل الصواب والخطأ يدخل في ذلك آراء الفقهاء والجماعات والتيارات الدينية والأحاديث المعترضة سندا ومتنا والسير والتاريخ كل ذلك ليس هو الدين المعصوم المقدس. فعلينا ألا نقع في المساواة بين التراث والوحي، وعلينا أن نفرق بين الاجتهاد والنص، وعلينا أن نعلم أن من خالف الاجتهاد ليس بالضرورة مخالفا للنص، كما وقع كثير من المتعصبين لفقيه أو لمذهب أو لفرقة أو لجماعة أو لتيار ديني، وأشنع خلط أحدثه التيار التكفيري الذي أقام معتقداته وأحكامه بالتكفير والحرمة والاستحلال على آراء متطرفة لخلف سلفهم الخوارج نتج عنه انتكاسات فكرية وعملية كبيرة في واقعهم وفي واقع الحركة الإسلامية كلها بشكل عام. فالتيار التكفيري اعتد بآراء الخوارج في تكفير المصر على المعصية، وتكفير مرتكب الكبيرة، وتكفير المقلد، ووجوب الهجرة إليه. وهكذا لو ذهبنا نستقصي آراء كل مذهب أو تيار أو جماعة دينية فسيجتمع لنا كم كبير من الأفكار والتصورات المنقولة من كتب التراث، وهي ليست حقيق الدين، إنما هي اجتهادات أفراد في زمنهم، قابلة للصواب والخطأ وهي محل نظر في كونها تصلح لزمن غيرهم أم لا؟. إن الوحي المعصوم المنزل شيء، وتطبيقات الأمم له خلال العصور شيء آخر، وهذه التطبيقات يكتنفها الكثير من الجهل والخطأ والهوى والعجز والتقصير، وهي في أحسن الأحوال، مع حسن النوايا، لا تعدو كونها اجتهادات يرد عليها النقص، والخطأ وهي ليست حجة للاهتداء بها أو السير على نهجها. والجمود عليها جمود على نسبة من الخطأ والجهل والعجز والقصور مهما كانت ضئيلة، والتمسك بها لا يؤدي إلا إلى التخلف، فلا بد إذن من التفريق الواضح بين الدين والتراث، وأن نعلم أن الدين للاتباع وأن التراث للاسترشاد. إن رفع القدسية عن الأسلاف وما خلفوه لنا من تراث، لا يعني بحال من الأحوال إهمال هذا التراث أو ازدراء أولئك الأسلاف، وعلينا ألا نجعل هذا التراث حجابا بيننا وبين نصوص الدين، حتى لا تكون سدا حاجزا عن الوصول الى الفهم الحقيقي للدين، أو مانعا من محاولة فهم واقعنا المعاصر، أو الاجتهاد في نوازل العصر الذي نعيشه، والحرص على تطبيق الدين في قضاياه ومشاكله وحاجاته. إن أكثر المعاصرين يتهيبون الاجتهاد خصوصا بعد الإغلاق الطويل لبابه، والواجب ألا يهابه المؤهل فيتولاه من ليس بجدير، مع الحرص على اقامته بنظام مؤسسي بحيث تنهض به مؤسسات ثقافية تقوم على الشورى واحترام الرأي الآخر وتعدد الاختصاصات العلمية والمناهج الفكرية والمدارس الفقهية، لينال ثقة الأمة ولتشعر تجاهه بالاطمئنان، فتتفاعل معه وتدعم مسيرته وتتحرك فيه بحركته الراشدة.