قالوا لكل زمان آية وآية هذا الزمان الصحافة، وقد لا يؤخذ هذا القول كما هو، فقد ازدحمت الساحة ولم تعد الصحافة المكتوبة هى المسيطرة فى التعبير عن الشأن العام واختراق مراكز القرار، فلقد ظهرت فى العقود الأخيرة بدائل مبهرة تدعو إلى الدراسة والتأمل، فقد ظهرت الصحافة الالكترونية معززة بأدوات وسائل التواصل الاجتماعى على نحوٍ غير مسبوق وأصبحنا أمام سباق زمنى بين الصحافة الورقية والصحافة الالكترونية، حتى توهم الكثيرون أن عصر الصحافة الورقية قد ولى وأنها قد تنتهى تمامًا، والأمر عندى مختلف عن ذلك، فقد تنال الصحافة الالكترونية من الورقية، ولكنها لا تقضى عليها بالمرة، لأن علاقة القارئ بالصحيفة الورقية علاقة ود متبادل وألفة حميمة لا تتحقق مع الكتابة الالكترونية مهما يطل أمدها، والدليل على ذلك أن الصحافة الورقية مازالت صامدة ولها قراؤها وعشاقها لا من الأجيال القديمة فحسب وإنما من الأجيال الجديدة أيضًا، مما يبرهن على مكانة الصحافة فى ذاكرة الجميع، ويهمنى هنا أن أقدم أطروحة لمستقبل الصحافة العربية فى عقودها القادمة، والأمر يدور حول النقاط التالية: أولاً: إن الصحافة هى مرآة للمناخ الثقافى والبيئة الاجتماعية، فإذا هبط المرء دولة ما فإنه يتعرف على ثقافتها من صحافتها ويدرك درجة التحضر ونوعية التقدم من محتوى الصحيفة وطريقة تبويبها وحجم قرائها، فإذا كانت العلاقة بين الصحافة والثقافة وثيقة للغاية فإنها أيضًا تعكس صورة المستقبل وتسبق أحيانًا حركة المجتمع وسياسات النظم لتبشر بفجر جديد وتطور مختلف، بل إن الصحافة تصنع أحيانًا مجتمع الأمل أمام الملايين الذين يؤمنون بمصداقية الكلمة المطبوعة وقدسية الصحيفة، من هنا فإننا نرى أن مستوى الصحافة فى بلدٍ معين هو مؤشر لثقافتها، وهل غاب عن الذاكرة كيف كان القراء العرب ينتظرون مجلة الرسالة التى كان ينشرها أحمد حسن الزيات فى مصر فى النصف الأول من القرن الماضي؟ وكيف كانوا ينتظرون أيضًا مجلة العربى القادمة من الكويت ويتلهفون على مطبوعاتها، وقس على ذلك مجلات عديدة بديلة مثل الهلال المصرية والشرق الأوسط السعودية بل إن الأهرام وهى أقدم الصحف العربية استمرارًا وانتشارًا قد احتلت هى الأخرى مكانة كبيرة فى ثقافة الأجيال من مختلف الأقطار العربية. ثانيًا: إن الصحافة على الجانب الآخر شديدة الالتصاق بالسياسة، فقد تكون لحزب معين قيمة كبيرة من مستوى صحيفته وقد لا تتناسب مكانة الحياة السياسية لحزب آخر فى ظل غياب الإعلام الواعى الذى تتصدره صحافة ذكية قادرة على التبشير به والدعاية له، لذا يظل هناك ارتباط وثيق بين الصحيفة المقروءة والسياسة التى تعبر عنها أو الحزب الذى تنطق باسمه، وقد شهدنا أحزابًا كثيرة التزمت خطًا سياسيًا معينًا وظلت تدافع عنه وتحافظ عليه، كما أن الصحافة مدرستان مدرسة محافظة تلتزم بالتحليل الموضوعى ومدرسة أخرى تحرص على الخبر الجديد مهما يكلفها ذلك حتى لو نال من مصداقيتها مع مرور الزمن، وقد تسبق المواقف الصحفية السياسات الرسمية وتدفعها فى اتجاهات معينة لم يكن من المستحب الوصول إليها، فالصحافة هى انعكاس أمين لكل ما يدور حولها ،شريطة أن تلتزم الحياد الموضوعى والخط الوطنى ولو جاء ذلك على حساب المنافسة المحمومة بين بعض الصحف فى ظروف معينة. ثالثًا: تبشر الصحافة الحديثة باختراقاتٍ جديدة لم تكن مطروحة من قبل بنفس الجدية والاهتمام، ويكون أمامنا فى هذه الحالة أن نعتبر الصحافة مؤشرًا للحداثة ودليلاً على التقدم، ولقد ظلت الصحافة دائمًا حلقة وصل بين الأجيال، فالكثيرون منّا مازالوا يحتفظون بمجموعات كاملة لصحفٍ معينة بما فى ذلك صحافة الطفولة، لأننا نرى فى كل ذلك تراثًا ذاتيًا يعتز به صاحبه ويرى فيه جزءًا من بنائه الثقافى وتكوينه الفكري. رابعًا: تبدو القيمة الرمزية للصحافة الورقية من عنصر الديمومة والاستمرار الذى يرقى بالصحيفة إلى درجة الوثيقة التى يلجأ إليها من يريد فى أى وقت، وهى ميزة تنفرد بها عن الأساليب الحديثة للصحافة الالكترونية، لأن ثبات الصورة الذهنية يتحول إلى مكون دائم فى ذاكرة القراء وأنا شخصيًا مازلت أتذكر بعض عناوين جريدة الأهرام خلال الأحداث المهمة فى العصور المختلفة وأرى أنها تمثل حافظة تاريخية عابرة للأجيال فى أعمارهم السابقة، مازلت أتذكر مثلاً عنوان الأهرام الذى صاغه الأستاذ هيكل عندما كتب (إنى أعترض) وكان ذلك بمناسبة الخلاف الذى بدأ فى مباحثات الوحدة الثلاثية فى ستينيات القرن الماضي، وأتذكر أيضًا عنوان (شاسترى يموت فى طشقند) مشيرًا إلى الوفاة المفاجئة لرئيس وزراء الهند الذى جاء بعد نهرو مباشرة ورحل فى أثناء مباحثات فى الاتحاد السوفيتى السابق، وما أكثر الشعارات والعبارات التى عشنا بها ومعها من خلال عناوين صحفية، فعنوان الصحيفة فنٌ مستقل واختياره يعبر عن ذوق خاص ورؤية متفردة، ألم نقل دائمًا إن لكل زمان آية وآية هذا الزمان الصحافة. نقلا عن بوابةالاهرام المصرية