في كتابه النفيس «جدة وأمنا حواء» أشار الدكتور محمد نويلاتي إلى الكيفية التي تشكلت فيها حكاية مقبرة ومقام «أمنا حواء» بمدينة جدة، وبالنظر إلى ما ساقه من دلائل واستشهاد أجدني كمؤرخ منجذبا إليها وإلى آلية الطرح العلمي الذي ناقش فيه الحكاية، لا سيما مع احتوائه لها من مختلف الجوانب العلمية والتاريخية، وهو جهد كبير بذل فيه مؤلفه وقتا كبيرا لجمع المعلومة ثم تحليلها وتفكيك سياقاتها بأسلوب علمي رصين، الأمر الذي يدعوني للإشادة بسِفْرِه والدعوة لقراءته لمن أحب أن يغوص في معرفة الحقيقة وفق منهج علمي. وواقع الحال فقد كنت سباقا إلى ذلك، ووجدت نفسي في نهاية المطاف متفقا معه في نتيجته العلمية القاضية بأن قبر ومقام «أمنا حواء» كان من صنع القصاصين ومن شاكلهم، وذلك ابتداء من منتصف القرن السادس الهجري، ثم توالى الاهتمام به وأخذ ذكره يسري في عديد من مرويات الرحالة الزائرين لجدة، وبلغ ذروة الاهتمام في عهد بعض سلاطين الدولة العثمانية، وكل ذلك أدى إلى ترسيخ فكرة وجود المقام والقبر في عمق الحكاية الشعبية. تجدر الإشارة إلى أن مختلف المذاهب الإسلامية لم تحتف بالقبر والمقام المذكور، ولم يأت على لسان علمائها المعتبرين مشروعية زيارته، وقبل ذلك لم يأت للقبر والمقام أي ذكر على لسان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، كما لم يقم الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه بزيارة القبر والوقوف عليه حال وصوله جدة عام 26ه، وهو ما يؤكد النتيجة التي وصل إليها الدكتور نويلاتي في كتابه، لكن وعلى الرغم من ذلك إلا أن الناس قديما وحديثا قد ألفت الإصغاء للأسطورة والانتشاء بها على أي صورة كانت، وهو ما يبرر استمرار تداول حكاية قبر «أمنا حواء» في الذهن المجتمعي والحكاية الشعبية حتى اليوم. في هذا السياق يشار إلى اهتمام القناصل الغربيين بمدينة جدة خلال القرن التاسع عشر الميلادي بالقبر والمقام، حيث تدخلوا طالبين من حاكم مكة في وقته الشريف عون الرفيق بعدم هدم الضريح، انطلاقا من أن القبر ومقامه ليس خاصا بالمسلمين وحسب وإنما بالناس أجمعين. وقد نوى الشريف عون الرفيق هدمه جراء قيام بعض الحجاج بمخالفات شرعية، علاوة على عدم إيمانه بموثوقية القبر ومقامه. أشير إلى أن اسم حواء كما أبانه الدكتور نويلاتي في كتابه قد ورد في المصادر اليهودية والنصرانية، حيث جاء في الإصحاح الثالث من سفر التكوين «ودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي»، لكن وبالرغم من ذلك فقد ورد اسمها بالعبرية «تشافا» بمعنى تعيش أو تلد، وهي المصدر للاسم «إيفا» في اللاتينية، مع التأكيد على أن النص القرآني قد خلا من أي ذكر لاسم زوجة آدم، كما خلا من ذكر أي إشارة إلى موضعها وموضع زوجها سيدنا آدم عليه السلام، وبالتالي فما لدينا من معلومات حول مقامها وتحديد أسمائها ووصفها، ما هو إلا من تأثير الروايات الإسرائيلية التي تسللت إلى موروثنا الديني من خلال أقوال عبدالله بن سلام وكعب الأحبار ووهب بن منبه، وهو ما بينه المؤلف في سفره بشكل كبير وبأسلوب علمي منهجي كما أزعم. من جانب آخر فعلى الرغم من اختلاف المنثور حول مكان وفاة ودفن «حواء»، حيث يشير كتاب (المدراش) اليهودي إلى أنها قد دفنت بالقرب من القدس مع سارة زوجة سيدنا إبراهيم عليه السلام وأخريات، كما ورد في المحكي لدى الطبري بأنها مدفونة مع زوجها في غار أبي قبيس بمكةالمكرمة، إلى غير ذلك من المرويات التي يمكن النظر إليها تفصيلا في كتاب الدكتور نويلاتي، بالرغم من كل ذلك، إلا أن مدينة واحدة في هذا العالم قد اشتهر وجودها فيها، بل واشتق اسمها في بعض الأقوال منها، وهي مدينة جدة بفتح الجيم، أي أن فيها جَدة كل البشر، وهو أيضا ما ساقه الأديب المصري الكبير يحيى حقي في كتابه «كناسة الدكان» الذي حكى فيه سيرته خلال وجوده دبلوماسيا بسفارة مصر بجدة في أوائل العشرينات من القرن الماضي، حين استفهم بتعجب عن تفرد مدينة جدة بوجود قبر ومقام لأمنا حواء دون أن يكون لها ذلك في بقية العالم. أخيرا وبمنأى عن المعلومة التاريخية الدقيقة، فوجود «أمنا حواء» بجدة بات مُسلما به شعبيا، ومهم أن يستفاد منه على الصعيد السياحي على أقل تقدير، والسؤال الذي تبادر إلى ذهني هو: هل كان يعلم ضيوف مهرجان البحر الأحمر السينمائي بأن احتفاءهم كان بجوار أمهم وأم البشر جميعا «حواء»؟ حقا ما أجملها من معلومة لمن تدبر وتبحر في مضامين ودلالات المعلومة وجدانيا. نقلا عن صحيفة مكة ومن الكابت مباشرة للوكاد