كل شعوب العالم عاشت تجربة، الهجرة من الريف إلى المدينة، ومرت بصيرورة التحولات الثقافية والاجتماعية المرافقة لهذه الهجرة، التي تتجاوز كونها انتقال جسدي مادي من مكان لآخر ومن بقعة جغرافية لبقعة أخرى، إنها هجرة نحو عالم جديد يمس كل أبعاد الشخصية الإنسانية ولها أعمق الأثر في الثقافة وأسلوب التواصل بين الأفراد، والسر يكمن في اليد الخفية للنمط الاقتصادي السائد، فالنمط الاقتصادي البسيط للريف يفرض سلوًكا ثقافًيا واجتماعًيا يختلف كل الاختلاف عن نمط اقتصاد المدينة المعقد، والمدينة هنا ليست في الحقيقة إلا سوًقا هائًلا مترامي الأطراف يلقي بظلاله الضاغطة على ساكني المدينة ويؤثر على وعيهم الذاتي بل ويرسم خارطة سلوكهم الشخصي وثقافتهم المجتمعية. يقول عالم النفس الألماني إيرك فروم: «وهكذا فإن نمط الحياة، كما تحددها للفرد خصوصية النظام الاقتصادي تصير العامل الأولي في تحديد بنية طبعه، لأن الحاجة الإلزامية إلى حفظ الذات ترغمه على قبول شروط عليه أن يعيش في ظلها» وكما أشار فروم فإن لنمط الاقتصاد قدرة كبيرة على تغيير تفكيرنا في محيطنا الاجتماعي وفي أنفسنا وذواتنا وفي أسلوبي عملنا وعيشنا، ونمط الاقتصاد يرتبط بالمجتمع وثقافته ارتباطا وثيقا دائًما، وهو يوجه الأعراف الاجتماعية التي توجه بدورها رغباتنا وتطلعاتنا. الثقافة آلية انتقائية يحركها الاقتصاد من الأعلى, يخلق من خلالها النمط الاقتصادي المهارات المطلوبة ويشكل الميول البشرية المتنوعة ليصوغ أسلوب حياتنا ويمكننا من العيش معا في مكان وزمان ما، بعد أن يوحد رؤيتنا وثقافتنا ويحدد أدوارنا الاجتماعية حتى أصبح يتدخل في الأدوار الأسرية ويحدد حجم الأسرة. بعض المحليين الاقتصاديين يغفلون جوانب إنسانية عميقة للتأثيرات الاقتصادية على شخصية الأفراد، ويتعاملون مع حركة الاقتصاد بدقة حسابية من خلال بناء نماذج رياضية لتفسير أداء السوق في مجتمع ً ا بالغة الأثر، ففي مجتمع المدينة تتعقد ما، ولم يدر بخلدهم أن الأعراف والقيم الموروثة تلعب أدوار العلاقات بين الأفراد بسبب تعقد علاقات الإنتاج والتصنيع، فالفرد داخل مجتمع المدينة يضطر أن ًلا من القيم والأفكار التي يفرضها اقتصاد السوق كي لا يشعر بالوحدة والعزلة والنبذ. إن يعتنق أشكا نمط الاقتصاد يبرمجنا جميًعا وفق ثقافة معينة بصورة لا واعية، ولو أخذنا أشهر نمط اقتصادي نعيشه اليوم، وهو نمط الاقتصاد الرأسمالي، فكلنا نعرف تلك الثقافة الاستهلاكية الملازمة لهذا النمط من الاقتصاد، التي لا نستطيع اليوم العيش في المدن دون اعتناق ثقافته، ودون اعتناق الثقافة الاستهلاكية التي تمثل عقيدة يعتنقها غالب سكان المدينة بلا وعي منهم. فنمط الاقتصاد في الريف يعتمد غالًبا على الإنتاج الذاتي، بمعنى أن في الريف الحالة مختلفة تماما فجل أنشطة التصنيع وعلاقات الإنتاج تجري داخل المنازل، حيث كل أفراد الأسرة يسهمون لإنتاج متطلبات العيش ذاتًيا ضمن دائرة اقتصاد بسيطة وغير معقدة، تتشكل من خلالها الأدوار الأسرية والمهام المنوطة بالزوج والزوجة والابن والابنة ومالك الأرض والعامل والسيد والخادم. تعرف جويس أبلبي أستاذة التاريخ بجامعة كاليفورنيا الرأسمالية بأنها: «نظام ثقافي متأصل في الممارسات الاقتصادية التي تتمحور حول رغبة المستثمر الخاص الملحة في جني الربح»، ولعلي هنا أتفق مع تعريف جويس أبلبي للرأسمالية وجعله مقرونا بالثقافة، فالرأسمالية ومع أنها ذات طابع علمي يقوم على الأرقام والمقاييس الموضوعية ولكن هناك جانب ثقافي متأصل داخل المنظومة الرأسمالية. إن هجرة شعوب العالم من الأرياف إلى المدن، لم تكن بتلك السلاسة والانسيابية، فقد مرت بمخاض طويل ومعارك حامية الوطيس ضد التقاليد والأعراف الاجتماعية المتعلقة بالريف. إن وعي الناس في الأزمنة القديمة لم يتشكل في عالم تجاري أو داخل سياق ثقافة استهلاكية، وحتى ينخرطوا في سياق النمط الاقتصادي الجديد ويعتنقون ثقافته وأفكاره فإن الأمر لا يتطلب الإكراه بل يتطلب الوقت الكافي ً ا جديدة غير مرتبطة زمانًيا أو مكاًنيا الذي يحتاج إلى انقضاء جيل أو جيلين حتى يأتي جيل يحمل أفكار بالريف وثقافته. نقلا عن الوطن السعودية