يرفض كثير من المنظرين المعاصرين غربيين وشرقيين الاعتراف بأن عولمة الإنتاج الرأسمالي، أو الثورة الحاصلة على صعيد الإنتاج الرأسمالي وعلاقات القوة الناجمة عنها شكلت مرحلة جديدة في تاريخ الرأسمالية، وحجتهم في ذلك أن الاستغلال الإمبريالي الذي مارسته دول الشمال خلال القرون الماضية على دول الجنوب بقي مستمراً، وظل السمة التي تطبع النظام الرأسمالي منذ نشأته، والأمر كذلك في ما يتعلق بعالمية الاقتصاد الرأسمالي. فمنذ اكتشاف رأس الرجاء الصالح والاقتصاد الرأسمالي يتسم بالعالمية، وبالتالي لا جديد في إطلاق الصفة العالمية على الاقتصاد، فالدولة القومية الرأسمالية لم تزل كما يدعي عرابو العولمة الجديدة بل ظلت تمارس التحكم الإمبريالي العالمي وإن بأشكال مختلفة عن تلك الفترة السابقة التي ميزت الرأسمالية في تاريخها الاستعمار، ويرون أن أزمة الهوية هي أزمة قديمة - جديدة توجد دائما في المجتمعات التي تشهد مرحلة انتقالية في تطورها. لا شك أن العولمة هي الرأسمالية في أحد تعيناتها التاريخية، لكن هذا التعين التاريخي يختلف اختلافاً كبيراً عن التعينات الرأسمالية السابقة. يعتبر ميشيل فوكو من أفضل من أوضح عملية الانتقال الجارية على صعيد الاقتصاد الرأسمالي، بالنسبة إليه كانت السمة الأساسية التي تميز المجتمع الرأسمالي زمن الحداثة، أنه مجتمع قائم على مفهوم الضبط، أي ذلك المجتمع الذي تقوم فيه السلطة البناء الفوقي بإنتاج وتنظيم العادات والأعراف عبر تثبيت الفرد داخل مؤسسات ثابتة بقوة الإكراه الاقتصادي والسياسي، والنتيجة أن هذه الأعراف والتقاليد التي تؤسس الهوية تظل مستقرة ومتماهية مع ثقافة المجتمع المراد ديمومتها من قبل السلطة ووسائلها، لكن هذه العلاقة تغيرت في عهد ما بعد الحداثة حيث تم الانتقال إلى مجتمع الرقابة حيث آليات الضبط أكثر ديموقراطية. لقد حلت أنظمة الاتصالات وشبكات المعلومات محل الأسرة والمدرسة والجامعة والمصنع... إلخ، تلك الأنظمة التي تخترق مكامن الحلم لدى الفاعل الاجتماعي بحيث تدفعه إلى إعادة تشكيل ذاته لتنسجم مع رغبته القوية في الحياة وآفاقها المتنوعة، لكنها في الوقت نفسه تولد لديه شعورا قويا بالاغتراب الذاتي لأنها تطبعه بطابعها الغزير والمتنوع. بعد إكمال الرأسمالية توحيد السوق العالمية، انتقلت إلى مرحلة يمكن تسميتها توحيد الثقافة الرأسمالية نتيجة الثورة الحاصلة في قوى الإنتاج وسائل الاتصالات والمعلوماتية، فالشركات فوق القومية لم تعد تقتصر في عملها على إنتاج السلع فحسب، بل على إعادة إنتاج الكيانات الذاتية داخل السياق الاجتماعي - السياسي عبر الاختراق الكامل لوعي الأفراد، وهنا تكون عملية الاغتراب أقسى وأعمق بكثير من تلك التي تحدث في المجتمعات المتقدمة. تطورت أوروبا اقتصاديا مع تطور المنظومة الاجتماعية السياسية، فكان الفكر انعكاساً للواقع بقدر ما كان الواقع انعكاساً للفكر جدلية الفكر والواقع، وكان كل فرز تاريخي تعبيراً عن تحول في منظومة العلاقات الاقتصادية - السياسية تحمل لواءه طبقة وسطى أمينة على تجاوز الطبعات التقليدية التي وسمت العصور الوسطى، وكانت النتيجة أنه تم تشكيل هوية جديدة عبر عمليات من التراكم الكمي والكيفي، على عكس ما يجري في المجتمعات التقليدية الآن زمن العولمة، حيث توجد هوة كبيرة بين المبنى التحتي والمبنى الفوقي، ينتمي الأول إلى زمن التحديث وما قبله، في حين ينقسم الثاني بين منظومة فكرية تقليدية مثقلة بأنماط الوعي التقليدية ومنتجات ثقافية حديثة، ويجد الفرد نفسه في نهاية المطاف تائها بين وعي فردي وجمعي يشكل تكوينه الثقافي عبر الأزمنة وبين منظومة فكرية حداثية تأتيه من خارج سياق المجال التداولي الثقافي المتعارف عليه أو الذي ينتمي إليه، الأمر الذي يؤدي إلى تمزق الهوية بين الأصل السوسيوثقافي للذات، وبين مفاهيم جديدة لا تجد معينا ماديا أو تاريخيا داعما لها. تعمم قوى الإنتاج الجديدة الحاجات وأنماط الاستهلاك من دون أن تعمم القدرة على تلبيتها، ولكن أخطر ما تقوم به هذه القوى أنها تعمم المفاهيم الثقافية المرتبطة بالعملية الاقتصادية التي تجري خارج البنية الاقتصادية المحلية العاجزة عن إنتاج هذه الأنماط، وهنا يتحول الإنسان في هذه المجتمعات إلى مجرد مستهلك مع بقاء وعيه وبناه الاجتماعية والسياسية والثقافية كما هي، لأن العولمة لا تقوم بأي عملية تحفيز للوعي والبنى التقليدية. وإضافة إلى ذلك شكل العمل غير المادي في الاقتصاد المعاصر نتيجة ربط الشبكات المعلوماتية بالعمل التواصلي في الإنتاج الصناعي عاملا آخر من عوامل تأزم الهوية، وذلك نتيجة التقسيم الجديد للعمل في سوق القوى الإنتاجية، حيث غابت المساواة غيابا تاما ليس في القوة الشرائية لقوة العمل المادية وغير المادية، بل أيضا في قطاعات اجتماعية كبيرة مما ساهم في إحياء سياسات الهوية، بحيث أصبحت النقاشات العامة حول الهوية سمة عامة لزمننا، فالعولمة وما تفرضه من واقع جديد كالاقتصاد العالمي للاستهلاك، وتطور الاتصالات والنقل، وارتفاع مستوى الهجرات، دفعت الهويات الثقافية الفرعية إلى تجاوز الهويات الوطنية والقومية. إن هذا التداخل الحاصل بين السياسة والاقتصاد والثقافة الناجم عن هذا النظام الجديد العولمة وما يتضمنه من فكرة وواقع مجتمع عالمي لم يؤد فقط إلى خلق منظومات واسعة على الصعيد العالمي فحسب بل إلى تحويل السياقات المحلية للخبرة الاجتماعية إلى شرائح تتولد منها نتائج متعارضة في المحليات الضيقة، الأمر الذي أدى إلى إنتاج كم كبير من الشتات الثقافي دفع بعض الجماعات إلى استعادة التقاليد المحلية المفقودة وتأكيد الهوية الثقافية المحلية على حساب الهويات الوطنية الأكثر اتساعا. وقد ترافقت عمليات المسح الثقافي الجارية في إطار العولمة مع غياب الأمة - الدولة في العالم العربي حيث وجدت الذات نفسها مدفوعة إلى الغوص في غياهب الانتماءات الفرعية الدينية، الطائفية، الإثنية، القبلية، ولا يعني غياب الأمة هنا غيابها على ارض الواقع التجزئة العربية، إن الغياب الذي نقصده هنا هو غياب في الوعي، ذلك الغياب الذي لا يقيم أمة مصرية أو سعودية أو عراقية أو سورية... بل يقيم انتماء سنياً وشيعياً وعلوياً ودرزياً... إلخ. عرف كثير من الباحثين والمفكرين العرب العولمة في حدودها الاقتصادية، مثل سمير أمين الذي لم ير فيها سوى الاختراق المتبادل للاقتصادات المتطورة في ما بينها ومن ثم في علاقاتها مجتمعة مع الجنوب، وصادق جلال العظم الذي يعرفها بانتقال عالمية التبادل التجاري إلى عالمية الإنتاج وإعادة الإنتاج، وعزمي بشارة الذي يعتبرها طغيان قوانين التبادل العالمي من قبل المراكز الصناعية على الهوامش... وعرفها بعضهم الآخر تعريفا أيديولوجيا فعمدوا إلى ربط العولمة بالأمركة، مركزين بذلك على الجانب السياسي على حساب البعد الاقتصادي، ومما ساعد في عملية الربط هذه وعي الأفراد أو بعض المثقفين أن العولمة الثقافية ليست إلا فرعاً من مشروع الهيمنة الأميركية على المنطقة والعالم. ومع أن ربط العولمة بالأمركة خطأ، لكنه ليس خطأ كبيراً لأن السلطة الأساسية التي تتحكم في صيرورات العولمة هي بيد الولاياتالمتحدة التي تكرر الممارسات الإمبريالية الأوروبية في القرون الماضية بأشكال مختلفة اليوم، فحق التدخل العالمي في الشؤون المحلية لم يعد يتم عبر الاستعمار ومفاهيمه، كما لم تعد الدولة القومية البرجوازية والمنظمة الدولية باعتبارها سلطة فوق قومية قادرة على التدخل باسم الشرعية الدولية. لقد حلت الكيانات فوق القومية محل الكيانات القومية في التدخل باسم الإجماع وليس الحق حسب هاردت ونيغيري، ولما كانت الولاياتالمتحدة تمثل هذا التحول العالمي كان من الطبيعي ربط العولمة بالأمركة، ويأتي الصوت الأقوى المعبر عن هذا الرأي ليس من دول الجنوب وإنما من قلب الولاياتالمتحدة ذاتها، يعتبر البروفيسور نعوم تشومسكي عالم اللسانيات الكبير أن العولمة تقع في صلب إيديولوجيا الهيمنة للولايات المتحدة. لم يسبق للهويات الاجتماعية بما هي هويات ثقافية أن كانت متشظية ومغتربة عن جوهرها كما هو حاصل اليوم، وهذا ما يفسر رد الفعل الأصولي للجماعات الدينية الإسلامية والمسيحية على السواء، من حيث أنها حركات تمرد لهويات وقيم أولية يتم تصورها على أنها نوع من التدفق التاريخي بأثر رجعي إلى الخلف هربا من الحداثة، فظاهرة الأصولية هي إذاً تعبير عن رفض عميق للتحولات العالمية المعاصرة، وهي بهذا المعنى انعكاس مباشر لما بعد الحداثة، وهذا هو سبب رفضها ومعاداتها للغرب بشكل عام والولاياتالمتحدة بشكل خاص، لأن ما بعد الحداثة ظاهرة أميركية على عكس الحداثة التي هي ظاهرة أوروبية. * كاتب سوري