هل حرمنا من لغة الجمال وصوره ومذاقاته؟ أطرح هذا السؤال وأنا كغيري أصدم يومياً بمظاهر لا يمكن أن تنزع إلى قيم الجمال ولا تقترب حتى من مبادئه، شكلاً ولوناً وصوتاً ومذاقاً، ماذا يعني هذا تحديداً، هل هو عائد إلى انقطاعنا ردحاً من الزمن عن مؤثراته الظاهرية والباطنية، أم أننا نحن لا نعبأ أصلا بقيم الجمال، لذلك لم نسع إلى تمثيله جيداً في حياتنا اليومية، وصياغة حضارتنا وفق ما تمليه علينا هذه القيم كما تأثر بها اليونان ثم الرومان وتأثر بها العرب الأوائل في الحواضر الإسلامية عبر العصور الإسلامية المتتابعة التي شكّلت لهم هوية ثقافية ميزتهم عن غيرهم وما تزال بقاياها شاهدة على بديع صنائع إنسان آنذاك وتفرده بهوية تميزه عن غيره؟ إذن، الجمال هو هوية الإنسان والمؤشر الحقيقي على نهضة الأمم، فأنت اليوم عندما تطوف بعض العواصم العالمية أول ما تقع عليه عيناك تلك المظاهر الجمالية البادية في نمط العمارة وتأثيث الطرقات، فأنت تجوبها ماشياً بلا ملل أو كلل ثم لا تلبث أن تغوص في رحلة اكتشاف لذيذة ومبهرة، يتبدّى لك هذا الجمال في كل شيء، بدءاً من تعامل الناس الراقي، إلى المسؤولية الكاملة التي يتحلى بها الإنسان، إلى الحرية التي أسهمت في ضبط سلوك الناس، إلى القوانين والأنظمة الصارمة الرادعة لأدنى تعدٍ على قيم الجمال أو محاولة تشويهها (المجسمات والمنحوتات واللوحات والموسيقى)، إلى أنواع الأكل والشرب وأدواتها، إلى الملابس وبديع حياكتها وتنوعها، إلى روائح العطورات، إلى المنازل المصممة كمنحوتات فنية، إلى الطرقات والحدائق والنوافير. لم تكن الطبيعة وحدها هي التي أسبغت على هذه الحواضر حلة من البهاء والجمال، بل كان لتدابير الإنسان الذي أدرك مدى تأثيره عليه عقلياً وروحياً أكبر الأثر على كل تجلياته الإبداعية، فهو -أي الفن- القوة الكامنة التي ما ان تقدح شرارتها حتى تدفع الإرادة لتخطّي عقبات المستحيل، فكم من بناء فني شامخ عجزت عقولنا عن إدراك وفهم أسراره، وكم لوحة فنية أو تمثال نحت من الرخام أو البرونز وقفنا أمامه في غاية الدهشة لا نستطيع أمامه أن نفيه حقه من العبارات التي تشيد ببراعة الفنانين الذين أبدعوه، وكم من سيمفونية شجية أخذت بمجامع قلوبنا وأرواحنا، فلا ننفك مشدودين لها نسمعها المرة تلو المرة بلا ملل، أما إذا تحدثنا عن فن بناء المدن وصياغة أخلاق الناس فسينازعك سؤال عميق واحد: كيف استطاعوا صناعة حضارتهم على هذا المنوال؟ وإن كنا نريد أن ننعم على حياتنا بمثلها فلنبدأ بإشاعة قيم الجمال التي سرقت منا أو لنقل انتزعت من أذهاننا وأرواحنا عنوة في لحظة خاطفة من تاريخنا، لنساق صيرورة ملفقة نسبت إلى الدين وهي ليست منه حقيقة في زمن يعدّ تاريخيا أسوأ حقبة مرت بنا. لن أعيد تكرار ما أحدثته فلول الصحوة بعقول الناس زهاء 30 سنة، ما يهمني هو ما فعلته في ذائقة الناس الجمالية وتزويرها وإحلال قيم بديلة تحت وطأة الذعر حتى زهّدتهم بالحياة وكرّهتهم بكل أيقونة جميلة، أتذكرون كيف بات ينظر إلى الفن حتى بلغت حرمته حداً أفضى إلى محاربته وتدمير بنيانه؟! حتى تلاشت البهجة من حياة الناس تحت ثقل وطأة الحرام. أعلم أن الكثيرين لا يبرحون حتى اليوم «ثقل» تلك الأيام القاتمة من حياتهم، مترددين في كل ما يتعلق بالفن والجمال بين كفتي ميزان الحلال والحرام، وأفهم أن الكثيرين أيضا مترددون في محاولة رفع تلك الأثقال القديمة عن كواهلهم، وأدرك تماماً أن شباب اليوم هم الأسرع والأخف للانضمام تحت مظلة قيم الجمال والفن والإبداع، لذلك وبما أن الفرصة جاءت مشرعة كل الامكانات لكشط كل بقايا الماضي فليس أمامنا سوى التعجل في نزع أشواك الرعب من قلوبنا عند أدنى محاولة لرسم لوحة فنية أو هز وتر، علينا أن نتمسك بهذه الفرصة ونستثمرها وندافع عنها، ولتكن البداية الصحيحة لتلمس قيم الجمال وتذوقها استشعارنا لحريتنا، فمن خلالها سنصل إلى المسوغ الذي يصلنا بالمتعة الحقيقية، وسنكتشف أنها الفطرة السليمة التي خلقنا بها، وسنفهم معنى إبداع الخالق في تصويرنا، وقيمة حواسنا الخمس متطلباتها الذوقية التي كنا قد حبسناها تحت إرادة متآمرين، أما وأنه قد أطلق لها العنان فلننطلق لاكتشاف فضاءات أرحب للجمال، لنصوغ حياتنا وفق قيم واضحة، سنكون مشعين منفتحين على كل الاحتمالات، مستجيبين لكل مؤثرات الجمال الداخلية والخارجية، بها سيصل إلى قيم سامية رفيعة مسكونة بالمتعة، تتعزز مناعتنا من القبح الذوقي مرئياً كان أم مسموعاً، وسيكون الجمال هو المعيار الحقيقي الذي تقاس به كل انفعالاتنا الظاهرية والباطنية، عندها ستستقيم أخلاقنا، لأن الوازع الأخلاقي سيتشكل وفق القيم الجمالية بالدرجة الأولى، وبها يمكن تقييم مستوى رقي الفرد من عدمه، ولن تكون القوانين والأنظمة سوى أدوات معينة لعزل القبح كي لا يشوه من هذه القيم المكتسبة، عندها سيكون للإنسان شخصيةً قويةً قادرةً على أن تحب وتكره في مدارها الروحاني والعقلي الصحيح الذي لا يحمل بذرة الوصاية أو التوجيه، وستصبح مناعته ضد «فايروسات» البشاعة أقوى، وبها سيحارب أدنى دخيل على حرم الجمال الذي سيتمثل في كل تفاصيل حياتنا إبداعياً وأخلاقياً. نقلا عن الحياة السعودية