يوصف التراث الشعبي بالشفاهية والتقليدية، تمييزا له عن التراث العالِم الذي أنتجته النخبة العالِمة. ولا يستطيع أحد أن يقلل من قيمة التراث الشعبي، ثقافيا واجتماعيا، فهو ركيزة من ركائز الهوية التي تميز المجتمع، ومنبع للإلهام والإبداع، ومَنْشط لمباهج الفولكلور، ومادة متحفيّة، وقيمة للتجربة والوعي الإنسانيين. لكن هناك فرقاً بين ما يمثله التراث الشعبي من قيمة ثمينة على ذلك النحو، وبين حضوره كخطاب للأمية الثقافية يسعى إلى ترسيخ تصوراتها وبساطتها وما يرتبط بها من تشكلات اجتماعية، ويستثمر دوغمائيتها وانفعاليتها وعداءها للثقافة العالمة وإنتاجها للشعبوية، ويمنحها السلطة والنفوذ على الوعي. وعلى الرغم من أن الخطاب الشعبي حاضر في كل المجتمعات والعصور، فإن المتأمل يستطيع أن يميز حضوره في عصر التقدم العلمي، وانتشار التعليم، وترقِّي الوعي العقلاني، وذيوع قيمة الحرية بما تستلزمه من مسؤولية فردية، بوصفه النقيض لذلك في مساكنته للأمية الثقافية، وفي ماضويته التقليدية، وانحباسه في تصورات نمطية لا تستطيع التفاعل مع المختلف ولا تقبل التطور أو التغيير. وقد تصاعد حضور «الخطاب الشعبي» في العقود الأخيرة، متضافراً مع مد العولمة، وثورة الاتصالات، وانكسار حواجز المعرفة والتواصل الثقافي بين المجتمعات، واجتياح قيم الحداثة ووسائلها للحياة التقليدية. فكان تصاعده دلالة مقاومة لتلك الوقائع التي يجد فيها العنصر الشعبي ما يهدد المقومات التي يمتلك بها الفاعلية، وهي التشكلات الاجتماعية التقليدية، وما يعبر عنها ويجسدها من نتاج ثقافي وتصورات وعادات. إن الخطاب الشعبي، من حيث هو نتاج فكر عامي، يكرِّس صورة عمياء عن الذات الثقافية الاجتماعية، ترى الخصوصية والأصالة والهوية في انغلاقها عن الآخر وعن التغيير، وفي تثبيت العنصر الشعبي واستمراره، بحيث يتحول المجتمع إلى قوى محافَظَة وثبات واستمرار لا قوى إبداع وخلْق وتغيير واتساع. وفي هذا تكمن علة الانحياز الثقافي الشعبي ضد الفردية وضد حرية الاختيار، وتكمن علة الافتقار إلى الموضوعية والمسؤولية والموقف المتجرد. وأول ما يمكن رصده في الدلالة على حضور الخطاب الشعبي، الاحتفال بالأدبيات العامية (فضائيات وجوائز بالملايين للشعر العامي ورواج للشيلات المناطقية والقبلية...إلخ) في تكريسها للشعبي العامي واعتمادها القوالب الجاهزة والصيغ النمطية في التفكير والتعبير. وبقدر ما تتصل الحفاوة بالأدبيات العامية بالدلالة على ترويج الفكر العامي وبسط نفوذ الخطاب الشعبي، فإن الطب الشعبي وجه بالغ الدلالة على سطوة هذا الخطاب وأثره في المجتمع، وعلى عدم رسوخ الثقة في المعرفة المنهجية والموضوعية المكتسبة. ويطول الكلام في وصف كثرة المدعين لهذه المعرفة العلاجية الخرافية أو العشوائية والازدحام حولهم وتكبد السفر إلى أشهرهم وما تمتلئ به محلات العطارة من خلطات وزيوت ومياه «مقري عليها» وعبوات توصف لكل الأمراض، وظهور الإعلانات عنهم في بعض الفضائيات، وامتلاك بعض أشهرهم فضائيات خاصة، إضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي يتطوع بعض الأفراد فيها للترويج والدعاية. وشعبوية المثقف العالم معرض بارز لتأمل سطوة الخطاب الشعبي، حين يتضاءل لدى المثقف الموقف التحليلي والموضوعي، فينساق إلى الهجوم أو المديح وتبسيط المشكلات، ويغدو تملق الجمهور واستتباعه هدفا على حساب فرديته واستقلاله. وتقفُنا المشاهدة أو الاستماع لاستفتاءات الناس الموجهة إلى علماء الدين، على ملمح للشعبوية؛ إذ معظم الاستفتاءات مما لا يجهله طلاب المراحل الدنيا من التعليم، وبعضها يمكن أن يرجع السائل بنفسه إلى كتب الفقه، ونادراً ما تكون المسألة إشكالية تحتاج إلى اجتهاد المفتي، وهناك طائفة من الأسئلة التي تحتاج إلى ذوي اختصاص طبيعي أو تقني أو إنساني. وبالطبع فهذا واقع أسهم الخطاب الديني في إنتاجه من جهة المَرْكَزة لبعض شيوخ الدين التي لا يمكن تحققها إلا بتجهيل الناس بالدين وترسيخ الحاجة إلى فتوى ورأي شيخ في الصغيرة والكبيرة. ولكن الصفة الدقيقة للخطاب الديني، فيما تدل عليه هذه الظاهرة، هي الشعبوية، فهو متجاوب مع الخطاب الشعبي، ومتلبس بصفاته الشفاهية والتكرارية والجماعية والانقيادية، بحيث يمكن حسبانه صنيعة لها ومنتوجا لتأثيرها. ولو تعلَّم أولئك السائلون المستفتُون، وارتفع مستوى وعيهم بالدين والحياة، فإن الخطاب الديني سيتغير ويرتقي. وشعْبَوَة الدين بالمعنى الذي يفارق حقيقة الدين المنوطة بفردية الفرد، هي المدلول الذي نجده في بعض الأحكام الدينية القضائية المستمدة من أحكام فقهية تراثية خضعت في زمنها للتسلط الشعبي، وها هي مجدَّدًا تبرهن على الخضوع للعرف الشعبي القبلي، وتؤدي معنى الانحياز للقبَليّة. وقضايا طلاق النسب، بالأحكام الصادرة بالتفريق في بعضها بين زوجين لأن الرجل ليس «قبيليا» وبالعلة التي يستند إليها الحكم وهي منع الفتنة وكف الضرر، بالغة الدلالة على نفاذ الخطاب الشعبي وتحكُّم منطق القبيلة بما يجاوز الدين ذا القداسة والتعظيم. ولا نستطيع أن نفهم ما يتكاثر عددُه في العقود الأخيرة من الفِرَق والجماعات والأحزاب الدينية والقومية المتطرفة، خارج سياق الخطاب الشعبي وما ينتجه من شعبوية، سواء حين تدغدغ مشاعر جمهورها، وتضلِّل وعيهم، وتبسِّط لهم المشكلات، وتتماهى مع وعيهم التقليدي، أو حين تتجسد في صورة انقياد للشيخ أو الزعيم تماماً كانقياد القبيلة لشيخها، أو تنطوي على عقلية دوغمائية مغلقة دون الواقع وعلاقاته، قائمة على التلقين والتقليد، بلا عقل نقدي أو سياسي أو معرفي، وتتخذ من القوة والعنف الرمزي والمادي وسيلة للتعبير عن ذاتها والحوار مع غيرها. ولن يكتمل الوصف لسلطة الخطاب الشعبي من دون الوقوف على ما يطفح به من ذكورية، حين يطاول المرأة في العقلية العامية غير قليل من التسلط على إرثها وزواجها وتعليمها وعملها ورشدها واستقلال رأيها. كما لن تنقضي شواهد سطوته في سرف الولائم، وفزعات الانتخابات، والتشبث في قضاء الحوائج بالمحسوبيات والوساطات، وتنازُع التراتب في حقوق المواطنة عرقيا ومذهبيا ومناطقيا وإيديولوجيا. والنتيجة هنا تعني أن الخطاب الشعبي، بالغ السطوة والرسوخ، وأن منطقه العامي، سليل الأمية والجماهيرية والبساطة، يرفض أي بناء معرفي يهدد سلطته أو يقلصها، سواء كان هذا البناء بالمنطق الديني أو العقلي أو الإنساني. إن تكريس سلطة الأمية والانقياد، بما يجعل الكائن عاجزاً عن التفكير المستقل، ومطمئناً إلى ممارسة الوصاية عليه هو المؤدى الذي تتكشف عنه دلالة الخطاب الشعبي. ولا يختلف الإذعان للمعالج الشعبي عن التعصب للقبيلة أو الأسرة أو المذهب، أو الرضوخ للعادات والإكراهات التقليدية المُثقِلة لكاهل الفرد، أو ارتهان النخبة المثقفة العالمة لسلطة الجمهور وتملُّقها له، أو فقدان الأنظمة نفوذها وعدالتها أمام المحسوبيات، أو ترتيب مبدأ المواطنة على التنازع الفئوي... إلخ، في الدلالة على الانقياد لسلطة غير عقلانية، هي الوصف الدقيق لذلك الخطاب، وهي سلطة لا تدع شيئاً دون أن تخضعه لخطابيتها. ولا شك أن دعوى «الأصل» ومشتقاته ومرادفاته، التي يستند إليها الخطاب الشعبي في تسويق ذاته والتمكين لتأثيره، بارزة في كل شاهد من شواهده. فالأصل الذي لا وجود له، إلا في بناء الخطاب له وتخييله، يقوم مقام البدء والمنتهى، ويستقر في موضع العلو والارتفاع، ويتصف بالمجد والعراقة والابتداء والصحة والعموم. نقلا عن الوطن السعودية