ليس ما يتعلق، لا باللون ولا بالطعم ولا التركيب الكيميائي والفيزيائي، وإنما لكون البترول بالنسبة لنا سلعة أكثر من عادية تُشرى وتُشترى، أو بلفظ آخر، تباع وتشترى كأي سلعة أخرى. وهو فعلا كذلك بالنسبة لكثير من الدول المنتجة، ولكن ليست الدول الخليجية التي تعتمد بشكل شبه مطلق على دخل البترول. وقد لا يتفق معي كثيرون على أن معظم المتخصصين والمحللين لا يرون في البترول إلا أنه سلعة شأنها شأن أي مادة مصنعة، صاحبها محظوظ إذا باع منها أكبر كمية ممكنة وبسعر يكفي لأن يفوق قيمة تكلفة الإنتاج، ولا ينظرون إلى أهمية ندرتها وكونها مصدرا قابلا للنضوب المبكر وأن تعويضها يكون بمصدر أعلى تكلفة وأصعب مناولة، وربما أكثر ندرة. قيمة البترول ومستقبله وأهميته الاقتصادية والاستراتيجية تعتمد على مكان وجوده وموقعه من اقتصاد البلد الذي ينتجه. فلكل شعب ظروفه ووضعه الاقتصادي والاجتماعي، ففي الولاياتالمتحدة يملك البترول صاحب الأرض أو مستأجرها وليست الدولة، والمالك حر في التصرف فيه متى وحيثما شاء. فلا تهمه الاستراتيجية الحكومية ولا الاقتصاد المحلي، بل يهمه فقط سعر بيع البرميل ليضمن ربحا مريحا. فالبترول بالنسبة له عبارة عن سلعة تجارية، يبيع منها ما يستطيع بربح بسيط، ويستثمر صافي الدخل في أعمال تجارية أو صناعية أخرى، ونصيب الدولة من ذلك الضرائب الكبيرة التي تجنيها من المنتجين. وكلما قلت نسبة دخل البترول في البلدان المنتِجة الأخرى كجزء من الدخل القومي، انخفض الاهتمام بمستقبله. أما في دول الخليج العربي، فالاعتماد شبه الكامل على البترول كمصدر للدخل العام يكاد يكون المهيمن على الوضع الاقتصادي، ولذلك يجب أن تكون نظرتنا إلى إنتاجه وبيعه بالسعر المناسب بمعزل عن تفكير من لا يقدر ظروفنا ذات الخاصية الخليجية. نعم، نحن جزء من هذا العالم، ونحن مع السوق، وما يمليه علينا قانون العرض والطلب. ولكننا لسنا مع من يقيس وضعنا ومستقبلنا بمقياس الشعوب التي لن تتأثر حياتها إذا نضب البترول في بلادها. فإذا يتطلب الأمر تخفيض الإنتاج كعامل للحفاظ على ثروتنا أو من أجل رفع السعر إلى مستوى مقبول، فعلينا أن نفعل ذلك، بالتعاون مع الآخرين إن اقتضى الأمر. وقد ذكرنا في مناسبات سابقة أن تخفيض الإنتاج بحد ذاته أمر إيجابي لأنه يحافظ على الثروة البترولية لمصلحة من يملكها ويطيل من عمرها. ولعلنا نضرب مثلا حيا لما هو حاصل اليوم في السوق البترولية، وعليكم الحكم. تتداول وسائل الإعلام من حين إلى آخر المكاسب والخسائر المالية التي يحظى بها أو يتكبدها المنتجون نتيجة لتخفيض الإنتاج الاختياري، واستجابة لعوامل السوق الآنية، فيتطرقون إلى مستوى المبالغ المالية التي حصلت عليها بعض الدول المصدرة. وهو شيء جميل وحقيقة واقعة، ولكن وسائل الإعلام ذاتها تغفل مسألة لا تقل أهمية، وهي أن تخفيض الإنتاج أدى أيضا إلى توفير كم هائل من البترول الذي ظل في مكامنه تحت الأرض كرصيد للمستقبل. وهذا له قيمة مستقبلية ربما أضعاف قيمته الحالية، لو تم إنتاجه وبيعه بأسعار اليوم. مع أن هناك فئة من الاقتصاديين لديهم اعتقاد بأن العالم على وشك الاستغناء عن البترول، أو على الأقل احتمال كبير لانخفاض الطلب عليه. وهم بذلك يسوغون لإنتاجه بأكبر كمية ممكنة ومن ثم بيعه بأي سعر، خوفا من أن يصبح البترول في المستقبل القريب لا قيمة له. لا أؤيد هذا الفكر الذي لا يستند إلى مصادر أو حقائق علمية، بل هو مجرد تخمين. ونؤكد أن احتمال نضوب البترول التقليدي الرخيص أقرب إلى الواقع منه إلى بوار هذه السلعة النادرة. الذي سوف يحدث فعلا خلال عقود قليلة هو تحول البترول التقليدي مع مرور الوقت إلى غير تقليدي. وسوف يصبح إنتاجه مكلفا وبكميات أقل كثيرا مما هو عليه الآن، على الرغم مما نشاهده اليوم من فائض في الإنتاج ونزول في الأسعار. أما الطلب فلا يزال كما كان خلال السنوات الطويلة الماضية، في ازدياد مستمر. فنمو الطلب العالمي السنوي على المشتقات البترولية لا يزال في حدود مليون ومائتي ألف برميل. وهي زيادة تفوق نمو الإنتاج الصخري الأمريكي عند أعلى مستوياته. وملخص الموضوع، أن وضع مستقبل إنتاج بترولنا في دول الخليج غير قابل للمقارنة بالدول التي لا يمثل دخل البترول نسبة كبيرة من دخلها القومي. فبإمكانهم تعويض النقص الحاصل من جراء نضوب البترول. أما نحن فمتى سنجد دخلا جديدا مستديما يفي بمتطلبات حياتنا بعد انقضاء عصر البترول، ناهيك عن اعتمادنا في معظم أحوالنا على ملايين العمالة الأجنبية التي تحول الآن بيننا وبين توطين العمالة في بلادنا. وبترولنا ليس في نظرنا مجرد سلعة معروضة للبيع، بل يتحتم علينا تقنين إنتاجه وتوفير أكبر قدر منه للمستقبل، لعل الله يجعلنا أمة منتجة ومصنعة، وأن نحقق خطط تنويع مصادر الدخل. نقلا عن الاقتصادية