أحيانا قد لا تجد أبلغ ولا أقدر على توصيف حالة ما تشاهدها أو تشعر بها من الاستعانة بمثل ما استقر في وجدان الثقافة المحلية التي نشأت فيها.. بل إن من العجيب أن تكتشف أن هذه الأمثال فيها من العبقرية أن لو درست بعناية وأضفي عليها ما تستحقه من البعد الفلسفي فإنها ستنتج ثروة معرفية ولغوية تريحنا من عناء الشرح والتفسير!! وأستميح القارئ عذرا في الربط ما بين المثل الشعبي المعروف «عنز الشعيب ما تبي -أو ما تحب- إلا التيس الغريب»، وبين أحد المفاهيم الشهيرة التي تناولها المفكر الجزائري العظيم في كتابه الأبرز (شروط النهضة) وهو مفهوم «القابلية للاستعمار»!!. وباختصار تفرضه مساحة المقال فإن مالك بن نبي يتحدث عن حالة جمعية واجتماعية لديها قابلية واستعداد لتقبل المستعمر (الغريب) والدفاع عنه والعيش ضمن الإطار والثقافة التي يفرضها هذا المستعمر الغريب، وهي نفس الحالة التي تصف فيها العبقرية الشعبية في أمثالنا استعداد وحب بعض الأفراد للغريب وتمجيده وتفضيله عما عداه من أهل الدار والحي!! مهما كان هذا (العدا) بارزا وقائدا ومدافعا عن حمى الدار والحي والشعيب القاصي الذي يسكن فيه ذلك الكائن!! تذكرت وأتذكر على السواء عنز الشعيب ومالك بن نبي كلما سمعت حديثا أو قرأت رسالة أو شاهدت حدثا يمجد فيه أهل الشعيب قائدا أو زعيما أو دولة لشيء تافه عمل مثله عشرات الأضعاف في بلادنا وقام بما هو أعظم منه قادة هذه البلاد مئات المرات.. هؤلاء لا يتوقفون عن التقاط أي كلمة أو فعل أو ردة فعل أو صورة عابرة من «التيس الغريب» ليطيروا بها زرافات ووحدانا.. ويتبادلوها في وسائل التواصل الاجتماعي بطريقة انشر تؤجر!! بينما لو قالها أحدنا أو فعلها قادتنا لسمعت لغة الشك والبغض تخرج من أفواههم وما تخفي صدورهم أعظم!! وهم في نفس الوقت أيضا يبررون «للتيس الغريب» أخطاءه ويلتمسون له العذر بينما لو ارتكبت عشر هذه الأخطاء عندنا لسمعت أقذع أنواع الشتائم والوصف بالتغريب والفسق وإشاعة الفحشاء والعمالة وخيانة الأمة والقضية... إلخ!! هؤلاء لديهم فالج لا علاج منه ولا أمل في استشفائهم سوى أن يحتضنوا «التيس الغريب» ويجعلوه مقياسا لوطنهم ولقادتهم، فإن لم يسع إليهم بحثوا عنه!! وإن لفظهم على قارعة الطريق تشبثوا به!! هم بيننا ولكنهم معه!! إن سالمنا سالموا أوطانهم.. وإن حالفنا تحالفوا مع أهلهم.. الوطن وقادته لديهم حالة عرضية ومسألة وقتية يحددها توافقنا أو عدمه مع القطب الذي يدورون في فلكه!! لا أقول ألا نحفظ للآخرين قدرهم ونجاحهم وتجاربهم التي تخصهم ولا تخصنا في شيء، أو نضحك على بعضنا ونقول عن أنفسنا ما ليس فيها أو لا ننقد أوضاعنا ونسعى لإصلاح ما يمكن إصلاحه في سبيل رفعة وطننا وتقدمه!! ولكن ما هو جدير بنا أن يتوقف بعضنا عن لغة الاستخذاء والقابلية للغريب في مقابل لغة الشك والوأد التي نتعامل بها داخل أوطاننا!! أو على الأقل أن نتخلى عن ازدواجية المعايير التي نرفع بها الغريب ونشتم بها القريب!! فإن لم يكن لا هذا ولا ذاك فالأولى أن «نقضب عنزنا عشان ما تروح لتيسهم ولا يجينا»!! نقلا عن عكاظ