عندما تولى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان مقاليد الحكم في المملكة أشار إلى دور التنمية المتوازنة في نهضة البلاد، والتنمية المتوازنة لا تعني التساوي، ولا تعني أيضا المحاصصة، إنها ببساطة تعني أن تبذل كل منطقة جهدها وأن تكتشف ذاتها، وأن تستخدم ميزاتها في إيجاد منطقة اقتصادية ذاتية. فالتنمية المتوازنة هي نظرة متقدمة للاقتصاد فلا هي اقتصاد الشركة ولا هي اقتصاد الدولة ككل، بل هي اقتصاد مناطقي يعتمد على اكتشاف القدرات الذاتية لكل منطقة ومدينة وتنميتها بحيث توجد كل منطقة منتجاتها التي تضمن أمرين معا، الأول أن تستطيع المنطقة إيجاد وظائف لأبنائها فلا يهجرونها إلى مناطق أخرى، والثانية أن تتمكن من إيجاد منتجات تتصف بالتميز، ما يوجد طلبا من باقي المناطق على منتجات هذه المنطقة، وبهذا تتكامل صورة رائعة للاقتصاد السعودي عندما تكتمل البنية الاقتصادية لكل منطقة وتوجد منتجاتها ووظائفها، فالاقتصاد السعودي ككل يصبح متوازنا وقادرا على إنتاج منتجات متنوعة من كل منطقة، وقادرا على إيجاد وظائف لكل العاملين فيه وهم بذاتهم قادرون على شراء كافة الإنتاج، ما يعني الاستقرار والاستدامة. هذا التصور يحتاج إلى بصيرة وعمل دؤوب وأيضا خطة تنمية لكل منطقة، وللحقيقة فإن ما يقوم به الأمير فيصل بن خالد أمير منطقة عسير في هذا الشأن يكاد لا يصدق، لقد انطلقت المنطقة في عمل تنموي كبير وهائل، وبعد أن كانت مدن المنطقة معزولة عن بعضها بعضا، والأسواق موجودة نظريا لكنها معطلة واقعيا بسبب حركة النقل الصعبة بين المدن وتشتت الأسواق وتباعدها، وأيضا تعطل الحركة المرورية بسبب كثرة الازدحام وأيضا الإشارات المرورية التي تستهلك وقتا ثمينا وكل هذا تسبب في بطء النهضة الاقتصادية في المنطقة وضعف الاستثمارات فيها، وهو ما انعكس على هجرة أبناء المنطقة إلى مناطق أخرى بحثا عن الوظائف أو الاستثمارات؛ ولهذا قد تعجب إذا وجدت من أبناء المنطقة من لديه مشروعات ضخمة في بريدة أو في الدمام أو حائل، بينما لا تجد له قوة النشاط نفسها في منطقة عسير أو مناطق قريبة منها. عمل أمير المنطقة منذ أن تولى أمرها على خطة تنمية متوسطة المدى بحيث تتكامل المدن بعضها مع بعض لتشكل منطقة حضرية واسعة، وهذا كان يتطلب أولا بناء شبكة طرق سريعة فكانت الخطة تقوم على بناء عدة مسارات دائرية على عدة مستويات بحيث يكون لكل مدينة مسارها الدائري ثم ترتبط مع المدن الأخرى في مسارات أوسع مع وجود عدة محاور تخترق هذه المسارات؛ وهذا انتهى بنا إلى منطقة اقتصادية واسعة جدا، مكنت من تمدد العمران في كل الاتجاهات، وأوجدت أسواقا جديدة في المنطقة ومعها بكل تأكيد فرصا استثمارية واسعة. لقد كان أمير المنطقة يدرك المشكلة تماما ويدرك حلها، فرأس المال جبان بطبعه ولن يأتي المستثمرون إلى المنطقة دون بنية استثمارية لديها رافعة بشرية تحقق لهم جدوى الاستثمار. واليوم تزهو المنطقة بقدرتها على زيادة تعدادها بشكل لافت مع قدرة المواطنين في كل مدينة على التسوق في المدن الأخرى بسهولة لم تكن متحققة قبل سنتين من الآن، كما أوجدت هذه الخطة مساحات واسعة تصلها الخدمات بشكل كامل وهو ما تبحث عنه كبريات الشركات وكبار المستثمرين وافتقدته المنطقة لعقود خلت. لقد نجحت المنطقة في تجاوز أكبر عقبة تواجهها في طريق التنمية المتوازنة وهي الوضع الجغرافي الصعب، وهناك اليوم جامعة الملك خالد بكل فروعها في المنطقة وكذلك جامعة بيشة، فجامعتان في منطقة واحدة يعد تطورا تنمويا مذهلا حقا لم يكن في حلم أي من شباب المنطقة قبل عقدين من الآن، هناك مدينتان طبيتان في طور البناء، فماذا بقي أن ننجزه حتى نحقق رؤية خادم الحرمين الشريفين في التنمية المتوازنة؟ قلت في البداية إن التنمية المتوازنة تتحقق فقط إذا اكتشفت كل مدينة ميزاتها الاقتصادية ومنتجاتها المطلوبة التي تكرس فيها جهودها من أجل إيجاد وظائف لأبنائها تمكنهم من شراء كل الإنتاج. وفي هذا كتبت قبل نحو عامين مقالا عن اقتصاد منطقة عسير، وذكرت المشكلة حينها وأنها تتلخص في أربع قضايا، الأولى هي غياب الهوية الاقتصادية، ثم مشكلة رجال الأعمال الذين لم يتمكنوا من الخروج من مأزق العصامية والتنافس العصامي، ومشكلة التحول من الذات إلى العائلة، ومشكلة القناعة بأن الموارد الفردية قليلة بينما الجماعية وافرة. وجزء من هذه المشاكل كان يعود إلى غياب البنية الحضرية التي تساعد رجال الأعمال في المنطقة، لكن مع جهود أمير المنطقة فإن معظم هذه العقبات قد حلت تماما، وبقيت أمامنا مشكلة الهوية الاقتصادية؛ وهي إعادة اكتشاف الذات في المنطقة واكتشاف المزايا الاقتصادية التي يرتكز عليها اقتصادها. ستظل السياحة أهم ميزة حباها الله للمنطقة، ومع ذلك لم نتمكن من بناء اقتصاد سياحي حتى الآن، المقالات المنشورة في "الاقتصادية" قبل عامين توضح رؤيتي بهذا الشأن ما زلت متمسكا بها حتى الآن، ولم تتغير قناعاتي، بل إن إنجازات أمير المنطقة قد عززت هذا التصور لي، تحتاج جامعتا الملك خالد وبيشة إلى لعب دور اقتصادي سياحي بجانب الدور التعليمي. ولي عودة إلى هذا الموضوع في مقالات أخرى.. والله أعلم. نقلا عن الوطن السعودية