لو قام أحد ما غير سعودي بتصفح ما كتبته الصحف قبل بضع سنوات عن تخفيض سن التقاعد وما يجري الآن من مناقشات لرفع سن التقاعد فحتماً سيصاب بالدهشة من هذا الالتفاف الكبير، الذي بلغ 180 درجة في الرؤية لمسألة مهمة تخص قطاعات كبيرة من الشعب السعودي. فقد كان هناك حماس كبير لتخفيض سن التقاعد ليس فقط لدى عدد من كتاب الرأي والمهتمين بالشأن الاقتصادي ولدى بعض المسؤولين الحكوميين بما في ذلك بعض أعضاء لجنة الإدارة والموارد البشرية بمجلس الشورى، من منطلق أن هذا التخفيض سيفضي إلى تقاعد أعداد كبيرة ممن هم دون سن التقاعد الحالي (55 سنة للنساء و60 سنة للرجال) مما سيخلق الفرص لتوظيف أعداد كبيرة من المصطفين في طوابير التعيين على الوظائف الحكومية، الذين أمضوا سنوات عديدة وهم في قوائم الانتظار وخاصة ممن تخرجوا من معاهد المعلمين وكليات التربية، وهذا ما جعل المتحمسين لهذا القرار يطالبون بتقليل الحد الأدنى لسنوات الخدمة، بحيث يمكن للمعلمة أن تتقدم بطلب التقاعد حين إكمالها 15 سنة في الخدمة بدلاً من 20 سنة. الغريب أنه عندما طرحت الفكرة للمداولة في مجلس الشورى كان ذلك على أثر مناقشة تقرير مؤسسة التأمينات الاجتماعية، التي طالب فيها بعض الشوريين بتحسين معاشات التقاعد التي تدفعها التأمينات لمنتسبيها من ذوي الأجور المنخفضة. ورغم كل ذلك الحماس الذي امتلأت به الجرائد لهذه الأفكار، إلا أن أياً منها لم يتحقق، وبقيت الأمور على ما هي عليه. إما لأن الجهات المعنية لديها من المعلومات التي يجهلها من طالب بهذا التغيير وأنها متيقنة من أنها لن تفضي إلى ما طرحه هؤلاء المتحمسون، أو لأنه ليس لديهم الرغبة في خوض تجربة غير قادرين على حساب نتائجها، وذلك لعدم وجود المعلومات العلمية الكافية التي يمكن الركون أو الاعتماد عليها لتقدير عواقب مثل هذا التغيير الجذري. ولأن التقاعد المبكر متاح في نظامي التأمينات الاجتماعية والتقاعد المدني، بقيت الأمور على ما هي عليه دون تغيير، في الوقت الذي استمرت أرقام البطالة في تزايد مستمر، فلا القطاع الحكومي في حاجة فعلية لتوظيف جميع هؤلاء العاطلين، ولا القطاع الخاص براغبٍ و قادرٍ على احتوائهم أجمعين. فخطط التنمية الخمسية تعتمد على القطاع الخاص كلاعب رئيس في تحقيق النمو الاقتصادي، وهو ما يعني أن يقوم باستيعاب الأغلبية الساحقة من السعوديين الباحثين عن عمل، ولكن حتى الآن لم نشاهد ما يجعلنا واثقين من أن أهداف هذه الخطط قابلة للتحقق كما هو منصوص عليه. وهو ما يعني أن الاشتراكات الشهرية التي تستقبلها التأمينات الاجتماعية من مشتركيها، لن تزداد بالنسبة التي تجنبها عجزاً مالياً قد تواجهه في ربع القرن المقبل، وهو ما صرح به المحافظ السابق للمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، الذي ذكر أن العجز المالي الحقيقي الذي ستتعرض له أنظمة التقاعد الثلاثة (العسكري، المدني والتأمينات الاجتماعية) سيصل في سنة 2037م إلى 191 مليار ريال. في مقابل هذه الصورة الرمادية طرحت لجنة الإدارة والموارد البشرية بمجلس الشورى اقتراحاً ينص على رفع سن التقاعد إلى 62 سنة. وهو كما نرى يتناقض مع الاقتراح الذي سبق للجنة أن طرحته في أواخر العقد الأول من هذا القرن، والتبرير المقدم هو أن الإنسان يكون في قمة عطائه عندما يبلغ ال 60 من عمره، وبإحالته إلى التقاعد إنما يُحرم الوطن من هذا العطاء المفعم بالخبرة العملية والمعرفة الواسعة بتفاصيل المهنة والعمل، التي بُنيت خلال ال35 أو ال40 سنة التي قضاها في حيثيات العمل. كما أن تمديد سن التقاعد الرسمي سيمنح الفرصة لكل من المؤسسة العامة للتأمينات ومصلحة التقاعد، بزيادة مواردهما المالية المقبلة من الاشتراكات الشهرية. وإذ تأجل البت في هذا الموضوع فلأن هناك نقاشاً بخصوص نظامي التقاعد المدني والعسكري لم ينته بعد، كما أن ذلك لا يعني أنه ليس هناك توجه إيجابي لدى مجلس الشورى للقبول بهذه الفكرة، وإخراج توصية بهذا الشأن، خاصة وأن هناك من المناصب الحكومية مستثناة من تطبيق سن التقاعد عليها، كما أن القانون يجيز لمن تجاوزت سنه 60 عاماً بالعمل في القطاع الخاص رغم بلوغه سن التقاعد. يعد نظام التقاعد من القوانين «الوضعية» التي استحدثها الغرب العلماني (فلم تعرف أي من البلاد الإسلامية حتى في أوج الحضارة الإسلامية مثل هذا التنظيم)، حيث كانت ألمانيا البيسماركية أول دولة تصدر قانوناً للحماية من آثار الشيخوخة والعجز البدني في سنة 1889 صمم خصيصاً للعمال حين بلوغهم 70 سنة، ثم خفض هذا العمر إلى 65 في 1916. ولكن بريطانيا أتت بنظام أكثر تطوراً وشمولية حينما أصدر برلمانها قانون معاشات المسنين في سنة 1908، بمنح راتب تقاعدي أسبوعي لمن بلغ السبعين من عمره، وذلك ضمن خطط حكومة هربرت أسكويث الليبرالية لإصلاح نظم الرعاية الاجتماعية، ثم خفض سن التقاعد إلى 65 في 1909. وقد كان للدولة السوفيتية السبق في جعل سن التقاعد 60 عاما للرجال وللنساء 55 عاما حسبما نص على ذلك دستور 1936. وقد تبعها في ذلك عدد من البلدان وخاصة الدول الاسكندنافية، ومعظم الدول الحديثة التي تكونت بعد الحرب العالمية الثانية بما في ذلك بلادنا، التي أصدرت أول نظام للتقاعد في سنة 1959، ثم تم تعديله في 1973، حيث نصت المادة ال15 على ذلك، كما اعتمدت السن نفسها في نظام التأمينات الاجتماعية الصادر في 1969 وإذا كانت العتبة القانونية للتقاعد هي سن الستين في معظم البلاد العربية وبعض البلدان الأوروبية، إلا أن هناك عدداً من البلدان المتقدمة لم تجعل الستين أبداً العتبة القانونية للتقاعد الرسمي، وإنما جعلته فوق الثانية والستين، وبعضها جعله عند الخامسة والستين. وتحت حجة تفادي العجز المالي المحدق بصناديق ومؤسسات التقاعد في بعض هذه البلدان، وعدم انكشافها مالياً أمام استحقاقاتها لمشتركيها المتقاعدين، تجرى محاولات لتمديد سن التقاعد حتى لما بعد الخامسة والستين، الأمر الذي لم تستحسنه أو ترحب به النقابات المهنية، ففي جميع البلدان التي تقدمت حكوماتها إلى مجالسها التشريعية بطلب تعديل سن التقاعد قامت المظاهرات الجماهيرية والاحتجاجات الصاخبة الرافضة لتمديد سن التقاعد، وقد استطاعت الحكومات ذات الأغلبية البرلمانية نيل الموافقة المطلوبة من مجالسها التشريعية لتمديد سن التقاعد، كما حصل في فرنسا مؤخراً، التي سترفع عمر التقاعد الإلزامي إلى 62 عاماً بدءا من 2018، وتدريجياً ستختفي الستون عاما من معظم البلدان الأوروبية كسن للعتبة التقاعدية، لترتفع إلى ما فوق 62 عاماً. ولن تكون مفاجأة بعد سنوات قليلة أن نجد بعض البلدان من ينوي رفع سن التقاعد إلى السبعين، كما كان حينما ابتدأت ألمانيا ذلك في أواخر القرن التاسع عشر. فالعتبة القانونية لسن التقاعد مرتبطة بعوامل عدة، من ضمنها العامل الديموغرافي. وارتفاع نسبة كبار السن في المجتمع وتحسن الرعاية الصحية ومخرجات التعليم. وحين تطبيق هذه العوامل على مجتمعنا السعودي، نجده ما زال مجتمعا شاباً من الناحية العمرية، فنسبة الشباب من بين السكان عالية وستبقى عالية لسنوات قادمة، كما أن معدل المواليد يعد عالياً بالمقاييس الدولية، وفي الوقت نفسه هناك تحسن مضطرد في معدل الوفيات وطول العمر، فمع تحسن الرعاية الصحية وازدياد الوعي الصحي أصبح المواطن رجلاً أو امرأة قادراً على العمل في بعض المهن دون مشقة وهو في الستين من عمره، مما يجعله رافضاً للتقاعد في هذا العمر. ويعود ذلك إلى أن هؤلاء العاملين، وخاصة ممن أنهى تعليمه الجامعي، لن يكون بمقدوره إكمال الأربعين سنة من الخدمة التي تؤهله، وفق أنظمة التقاعد، للحصول على معاش تقاعدي كامل حين بلوغه الستين، وهذا ما يدفع لمن لا يملك ادخاراً، أو مصادر دخل إضافية تؤمن له العيش بمستوى لا يقل عما كان يحياه قبل تقاعده للقبول بالعمل سنوات أخرى تساعده في زيادة معاشه التقاعدي، أو في اللجوء إلى التقاعد المبكر بحثاً عن مصادر رزق إضافية تعينه على تأمين حياة مستقرة له ولعائلته قبل أن يبلغ الستين ولا يكون في مقدوره أن يفعل ما يفعله الشباب. وتأتي الحاجة للرعاية الطبية الضرورية في مقدمة المصاعب التي تواجه كثيرا من المتقاعدين وتقتطع جزءاً كبيراً من معاشهم التقاعدي المحدود، خاصة حين الحاجة إلى عناية مستعجلة، لا تتوفر في المستشفيات الحكومية مما يدفعهم للجوء إلى المستشفيات الخاصة ذات الرسوم الباهظة التي لا تستطيع معاشاتهم تحملها. وهذا ما يخلق مبررات تدفع باتجاه القبول بفكرة تمديد سن التقاعد الإلزامي، لكن هذا التمديد -لو أقر- سيترك أثره على عدد الوظائف المتاحة لآلاف السعوديين الباحثين عن العمل، ما لم يتم ربط هذا التمديد بإنهاء خدمات مئات الآلاف من العمال والموظفين غير السعوديين، فالبلدان التي تنوي تمديد العتبة القانونية لسن التقاعد لا تعاني من بطالة عالية بين قواها العاملة المحلية، متزامنة مع وجود مئات الآلاف من العمال والموظفين غير المحليين العاملين في جميع القطاعات والمجالات الإنتاجية والخدماتية. قد لا يكون هناك مفر من تمديد سن التقاعد الإلزامي في السعودية إن لم يكن الآن فسيكون في القريب العاجل، ولكن قبل اتخاذ هذا القرار المهم يفترض أن تكون لدينا المعلومات الكافية والإحصائيات الضرورية التي تساعدنا في اتخاذ الخيار الذي يخدم المواطن والوطن في وقت واحد، وذلك من خلال: أولا، القيام بالدراسات والاستبيانات الضرورية لتمدنا بالمعلومة المفيدة والموثوقة، التي على ضوئها يمكن بناء التوقعات والتأثيرات الاجتماعية والمالية لهذا التمديد. «مثل كم من المواطنين سيتقاعد خلال عقد من الزمان، وما هي طبيعة أعمالهم، وهل لدينا من القوى العاملة المؤهلة لتحل محلهم، وغير ذلك من التفاصيل غير المتاحة في الوقت الراهن»، التي يفترض أن تكون وزارة الاقتصاد والتخطيط قادرة على القيام بذلك. ثانياً، يجب أن يربط اقتراح التمديد ببرنامج إصلاحي شامل لكافة الأنظمة المتصلة بالتقاعد، يتركز على إيجاد آلية عملية للحد أو للتقليل من حجم المعاناة التي يحياها المتقاعدون ذوو المعاشات المنخفضة جراء قلة وثبات معاشاتهم التقاعدية طوال حياتهم، ومن معاناة الأسرة حين وفاة المعيل «الزوج، الأب». فدخل الأسرة ينخفض انخفاضاً حاداً بوفاة المعيل، ذلك أن الجزء الأكبر من المعاش يتم شطبه دون أن يؤخذ في الحسبان عدد سنوات الخدمة ومقدار الاشتراكات التي دفعها لجهة التقاعد، فالورثة لا يحصلون إلا على جزء بسيط من معاش معيلهم، وإزالة عدم المساواة بين الرجل والمرأة فيما يدفع للتابعين من أفراد الأسرة، ومن هنا قد يكون تعميم فكرة برامج الادخار «التوفير» الإلزامي مشابهاً لما تفعله شركة أرامكو وسابك على جميع العاملين السعوديين منفذاً لمعالجة بعض من هذه التأثيرات القاسية، وإعادة احتساب مكافأة نهاية الخدمة لموظفي الدولة أسوة بمن ينطبق عليهم نظام العمل. ثالثاً أن لا تكون مدة التمديد واحدة لجميع الأعمال والمهن، بل من الأفضل التمييز بين مهنة وأخرى، فهناك أعمال شاقة يفترض أن يكون فيها سن التقاعد الإلزامي أقل من ستين عاما، والتقاعد المبكر أقل من خمسة وعشرين عاماً كي ينال المتقاعد معاشه التقاعدي كاملاً تعويضاً له عن سنوات العمل الشاقة التي قضى فيها زهرة شبابه، كما أن هناك من الأعمال التي سيؤدي تمديد عمر التقاعد الإلزامي إلى تحقيق قيمة إضافية تخدم الوطن، كأساتذة الطب -على سبيل المثال- الذين لم ينالوا درجاتهم العلمية بسهولة وفي وقت قصير، فبقاؤهم على رأس العمل لسنوات إضافية سيخدم الوطن من جهة ويمنحهم الفرصة لنيل معاش التقاعد كاملاً من جهة أخرى، بعكس معلمي المدارس الذين أنهوا تعليمهم الجامعي في أربع سنوات وابتدأوا العمل وعمرهم لم يتجاوز الخامسة والعشرين، فقد يكون الإبقاء على سن التقاعد ببلوغ الستين عاماً أكثر جدوى للوطن من تمديد عتبتهم التقاعدية. رابعاً أن يكون هناك تأمين طبي شامل لجميع المتقاعدين. نقلا عن الشرق السعودية