خلال اجتماعه الأخير مع مجلس الوزراء، ركز خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز على أربع نقاط مهمة، عندما وجه حديثه إلى أعضاء الحكومة السعودية قائلا: «أطلب من إخواني الوزراء أنكم تؤدون واجبكم بإخلاص وأمانة، وتضعون بين عيونكم ربكم.. ربكم.. ربكم، الذي ما بينكم وبينه أي حجاب، أرجوكم، وأتمنى لكم كل توفيق، وأرجوكم مقابلة شعبكم صغيرهم وكبيرهم كأنه أنا». لنكن صرحاء مع أنفسنا؛ هناك بعض الأشياء التي يعتقد البعض أنها من السمات الأساسية المرتبطة بالسلطة، من بينها أن وجودك في السلطة يجعلك تعتقد أنك أفضل بكثير من الآخرين، وأن كل شيء تستخدمه، مثل السيارة والمنزل والملابس والطعام... إلى آخره، ينبغي أن يكون أفضل من الأشياء التي يستخدمها طاقم العمل الذي ترأسه. وهذا ما يجعل الكثيرين في السلطة يعتقدون أنهم بذلك يمتلكون الحق في أن يحكموا الشعب. بمعنى آخر، تحول الحكم من «مهمة» أو «مسؤولية» ملقاة على كاهل من أوكل إليه إدارة شؤون الناس إلى «غنيمة» ينبغي استغلالها قدر الإمكان. غير أن السؤال المهم هو، كيف لنا أن نفرق بين «المهمة» و«المسؤولية»؟ وما المعيار الذي يمكننا أن نعتمد عليه في التعرف على الاختلافات بين المفاهيم الثلاثة؟ هناك كثير من الأمور المتعلقة بتلك القضية. أولها، هناك اختلاف كبير بين «السمع» و«الاستماع»، فقد يتحدث إلينا شخص ما، لكننا لا نعير اهتماما لحديثه، وبالتالي لا يمكننا أن نفهم ما يقول لأننا ببساطة منشغلون بالتفكير في قضايا أخرى في الوقت الذي يتحدث إلينا ذلك الشخص. فنحن نعتقد أن ما يشغل بالنا أكثر أهمية من حديث ذلك الشخص، وهذا نتيجة القاعدة التي يستند إليها كثير ممن في السلطة، ألا وهي: «أنت تتحدث إلى نفسك. أنا وزير، أما هو فرجل من عامة الشعب، لذلك لا ينبغي أن أهتم أو أقلق حيال ما يقول!». في بعض الأحيان، يقول شخص ما يتحدث إلينا: «أصغ إليّ»، ونستخدم هذه العبارة عندما نعتقد أن الشخص الذي نتحدث إليه لا يعير حديثنا الاهتمام الكافي. فربما «يسمع» المرء كلمات من يتحدث إليه، لكنه في حقيقة الأمر اتخذ قرارا داخليا واضحا بعدم «الاستماع» أو «الإصغاء» لذلك الحديث. في خطابه الأخير للشعب الإيراني، قال الشاه: «يا شعب إيران العزيز، لقد سمعت صوت ثورتكم». لكننا جميعا نعلم أنه كان قد فات الأوان حينئذٍ، وحق عليه المثل القائل: «في الصف ضعت اللبن». ولهذا، فقد جاء ذكر واحدة من أفضل صور تكريم الله عز وجل لنبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) في القرآن الكريم في سورة (التوبة، الآية 61)، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: «ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم». تحتوى هذه الآية على كثير من النقاط الممتازة التي ينبغي علينا جميعا، بما في ذلك رجال السلطة، أن نعيها ونضعها نصب أعيينا. أولا، أن «الإصغاء» لآراء الناس جاء ذكره مباشرة بعد الإيمان بالله، وهذا يعني أنه ينبغي أن نرى الإنسان على أنه خليفة الله في الأرض. ثانيا، أن هناك بعدا آخر لقضية «الإصغاء» للناس، هذا البعد هو «الرحمة» التي كانت طريقة تفكير ومنهاج حياة نبينا العظيم (صلى الله عليه وسلم). الأمر الثاني المرتبط بالفرق بين «المهمة» و«المسؤولية» و«الغنيمة» فيما يتعلق بكون المرء جزءا من السلطة الحاكمة، أن بعض الناس يرسلون خطابات إلى الرئيس أو رئيس الوزراء أو الوزراء أو أي من المسؤولين في الدولة، لكن السؤال: ما الطريقة التي ستُقرأ بها تلك الخطابات؟ والأكثر أهمية من ذلك، من الذي سيرد على تلك الخطابات؟ في اللغة الفارسية، هناك مثل يقول: «لا ترسل خطابك للحكومة، لأنهم لا يقرأون الخطابات، وإذا حدث وقرأوها فلن يفهموا ما جاء فيها». وهذه إشارة واضحة على الفجوة الكبيرة بين الحكومات وشعوبها. الأمر الثالث هو أنه عندما لا تأخذ الحكومة آراء وخطابات الشعب بعين الاعتبار، فإن ذلك يعني أن الحكومة لا تعتقد أن الحق في حكم الدول يعود أو يعتمد بشكل أساسي على وجود ذلك الشعب. ولهذا فإن قبول آراء الشعوب والعمل على إرضائهم هي الأسس الرئيسة التي يُبنى عليها الأمن والاستقرار في أي بلد. وقد ظهر ذلك جليا في ثورات الربيع العربي، عندما تظاهر الشعب في ليبيا ومصر واليمن وتونس ضد حكوماتهم التي سقطت لأنها لم تستمع إلى شعوبها. السؤال الأهم الذي يفرض نفسه هو: كيف يتأتى لنا أن نضفي صبغة الشرعية على الحق في حكم الشعوب؟ لكن هذا السؤال يقود إلى سؤال آخر أهم، وهو: ما المنهج الذي سنتبناه؟ وما الطريقة التي سنعتمد عليها في إدارة شؤون الحكم؟ ولنا أن نتأمل الحديث الذي دار بين سيدنا إبراهيم (عليه السلام) والملك «النمرود». اعتقد «النمرود» أنه مركز العالم، واعتقد أيضا أنه مصدر السلطة والشرعية. وعندما قال له سيدنا إبراهيم (عليه السلام): «ربي الذي يحيي ويميت»، رد «النمرود» قائلا: «أنا أحيي وأميت». وأود أن ألقي مزيدا من الضوء على تلك الكلمة الغريبة «أنا». عندما نتأمل قصة «النمرود»، نجد أن الأنا قد جرى كسرها أمام الناس وأمام الله أيضا. وقد قيل يوما إن شخصا سأل أبا يزيد البسطامي (من أعلام التصوف في القرن الثالث الهجري) «ما المسافة بيني وبين الجنة؟» فرد أبو يزيد: «خطوة واحدة فقط!»، ثم استطرد قائلا: «طأ بقدمك كلمة (أنا)، وسوف تدخل الجنة»! وعلى عكس ذلك، عندما يعتقد شخص ما أنه مركز السلطة وأنه يحتكر الحقيقة، فهو يعيش حينئذ في جحيم، نيران ذلك الجحيم لا تحرق الجلد، بل تحرق القلوب والعقول. ولهذا يقال دائما إن «جنتك أو جحيمك يعيش داخلك»، فنحن نبني الجنة أو الجحيم من خلال أقوالنا وأفعالنا. وتحتوي كلمة الملك عبد الله على أربعة عناصر، جميعها متداخلة ومرتبطة ببعضها؛ «إخلاص وأمانة، عيون، رب، ومقابلة الشعب». عندما نتحدث عن الإخلاص، فهذا يعني أنه لا مجال لكلمة «أنا»! فكل شيء يعتمد على الله. ولهذا فإن المعنى الحقيقي ل«الأمانة» لا يتحقق إلا عندما يتحقق الإخلاص. سوف تصبح شخصا «مخلصا» عندما تؤمن بوجود الله. والله موجود في كل مكان، ولا تأخذه سِنَة ولا نوم. هذه الأمور الثلاثة ينبغي أن تكون الأسس التي يجب أن يبني عليها كل مسؤول أفكاره وحياته. نقلا عن الشرق الاوسط