ترتعش المؤسسات حينما تظهر فكرة جديدة" جان ديوي أكبر تهديد يواجه المملكة ليس المشاكل الحدودية ولا الطموح الإيراني ولا النفط الحجري في أمريكا ولا النزاع العربي - الإسرائيلي ولا الإرهاب ولا أخطار فشل مصر واليمن وسورية والعراق، فكل هذه مهمة وتشكل أخطارا ماثلة ولو بدرجات متفاوتة، ولكن أكبر تهديد هو عدم وجود سياسة اقتصادية حصيفة بعيدة الأجل، وضعف قياس وتقدير وتفعيل مكوناتها الأساسية، مثل الإنتاجية والتعليم والتخصيص والدعم والسياسة المالية والضرائب والطاقة. قوام السياسة الحصيفة هو إعطاء هذه المكونات درجة عالية من التفعيل الحقيقي بهدف القفز باقتصاد المملكة وإشباع دور المواطن ماديا ومعنويا قياسا على أدائه ومواهبه. طريق الوصول إلى هذا الهدف يسهل أو يصعب بمدى إعطاء هذه المكونات حقها من الجهد والتخطيط. وهذا لا يتم في منظومة حكومية كبيرة هدفها الأساس إرضاء الناس بغض النظر عن أدائهم. الرابط المجتمعي بين تحريك المكونات والسياسة الحصيفة يمر من خلال الرسائل الضمنية والظاهرة التي تصل العامة والخاصة، حول المشروع النهضوي عامة وفي إدارة هذه المكونات خاصة. الوصول إلى العامة والخاصة عملية معقدة تنجح وتفشل طبقا لعوامل وظروف موضوعية وغير موضوعية، بعضها مفهوم والبعض الآخر غير مفهوم في دوائر اقتصاديات التنمية. ولكن تعقيدات العملية فكريا وصعوبات الحلول العملية وحتى المخاطر، أسهل بكثير من المخاطرة العالية على المجتمع في عدم تحديد مواقف وسياسات محددة تجاه التنمية الاقتصادية. لعل نقطة البداية هي محاولة فهم السياق التاريخي وتقدير تجربة العرب في الصبر والعمل الجمعي. يقول ابن خلدون ".. وكما يُلاحظ من التجارب الحديثة أن تاريخ العرب يأتي في موجات تقوم فيها الدول ثم تُهاجم غالبا من الداخل لأسباب متعددة، تكون محصلتها عدم القدرة على الحراك إلى مدار أعلى في التنمية، وبذلك عجزت الأمة عن تحقيق أي اختراق تاريخي منذ أكثر من ألف عام". لذلك هناك نزعة تدميرية يلمسها كل مهتم ومراقب لأوضاعنا. هذه النزعة مردها البعيد تاريخي، ومردها القصير مدى وضوح أن النموذج الرفاهي في مجتمع غير منتج في الأخير لا يُرضي أحدا، وبالتالي هو تآكلي مادياً ومعنوياً، فهناك تلاق بين البعد التاريخي ونموذج الإدارة الاقتصادية. في ظل هذه الصورة الصعبة هناك ترسبات ومنخفضات تاريخية كثيرة لا نعرفها، فمثلا لا أحد يعرف لماذا هناك رغبة جامحة في الأبعاد الأيديولوجية "معرفية وروحانية" والسياسية على حساب التنموية، بعكس مجتمعات شرق آسيا، هناك أمل كبير إذا استوعبت النخب المسؤولية التاريخية والأخلاقية، خاصة بعد ما اكتفت ماليا في الغالب دون مبرر إنتاجي. للمملكة وضعية خاصة تمكنت فيها من تأسيس كيان فريد جمع بين هضم المكون الأيديولوجي والسياسي، ثم واصلت البناء المادي مسلحا بالثورة النفطية والابتعاد عن المراهقة السياسية، كما حدث في أغلب دول المنطقة، ولذلك لعل المملكة في وضع فريد في إمكانية النجاح، ولكن النجاح يتطلب مخاطرة أخرى في اعتناق النموذج المناسب في فترة تاريخية مناسبة، فالتحول التاريخي غالبا ما يكون وليد لحظة تاريخية، وإذا فاتت لن ينفع التحسر. في صلب الموضوع اليوم يأتي ضعف إنتاجية المواطن كأهم نقطة ومركز لتركيز الأذهان وأمل التغيير. دون رفع مستوى الإنتاجية لن تقوم لنا أو لغيرنا قائمة اقتصادية. تلتقي الخلفية التاريخية مع الاستحقاق الاقتصادي في فهم الحاجة إلى استغلال الثروة النفطية لإحداث نقلة، بينما النزعة المعيشية المريحة تطلب منا التأجيل، وهذا سر تناقض هذه الحقبة. رصيدنا المعنوي والتاريخي كاف لإحداث نقلة ولكن هل نخبنا بحجم التحدي، أم أنها آثرت التكيف الاجتماعي المصلحي المقبول وغير المقبول؟ نقلا عن الاقتصادية