يعاني معظم العرب من الفقر في ما عدا دول الخليج، وحتى الثروة النفطية لم تسعف الملايين في العراق وليبيا والجزائر، ولم يسعف الكثير من العرب تفادي ما يُسمى بنقمة النفط، ومن ثم الاهتمام بالتنمية، وصلنا الطامة الكبرى بالثورات العربية السياسية بامتياز، وإهمال ما بدأ وكأنه متعمد في الحاجة إلى ثورة اقتصادية. التداخل بين السياسة والاقتصاد ميدانه فكرياً الاقتصاد السياسي، ولكن من ناحية عملية لابد من اختيار طريق، وقد اختار العرب طريق السياسة على حساب الاقتصاد، في نظري هذا خطأ استراتيجي يصعب فهمه، وبالتالي لن يكون الخروج من هذا النفق سهلاً، فبدلاً من أن تصبح السياسة مدخلاً وآلية لإعادة أولويات المجتمعات الاقتصادية، أصبحت مخرجات وثمرات الاقتصاد هدفاً، بينما الأحرى أن يكون الهدف نظاماً اقتصادياً إنتاجياً وسلساً وعادلاً. سبب فقر العرب أن السياسة أصبحت وسيلة للحصول على ثمرات اقتصادية غير موجودة... المدخل والآلية السياسية تتطلب الارتكاز على مفهوم اقتصادي تتشرب به النخب وتعقد عزمها على التنفيذ. منذ الثورة الصناعية والتطور الاقتصادي محكوم بمدرستين فكرياً وعملياً للخروج من التخلف. كلتا الفكرتين مصدرهما غربي الفكر والممارسة، ولم تخرج دول آسيا الناجحة عن محيطهما، ولكن الممارسة دائماً تأخذ أبعاداً تخص المكان والزمان. المدرسة الأولى، ما يسمى بالمدرسة الليبرالية الاقتصادية، التي تنهج إبراز دور وأهمية المستهلك من نمو وحماية وإعطاء القطاع الخاص الأولوية على حساب القطاع العام، بغرض إعطاء المنافسة دوراً فاعلاً لخدمة الاستهلاك، وهذا هو الفكر السائد في الدول الغربية واليابان. والمدرسة الثانية، ما يسمى بالمدرسة التجارية التي تعتمد على نمو وزيادة القدرة الإنتاجية بغرض التصدير من خلال التعاون بين الحكومة والشركات العامة والخاصة. كذلك تُسخر منظومة من السياسات المالية والنقدية لهذا الغرض، مثل الحفاظ على سعر صرف يساعد في تحفيز الصادرات، وهذا هو الفكر السائد في الصين ودول شرق آسيا الناجحة. الأزمة العالمية تدفع بعض الدول الغربية نحو النموذج التجاري، وما إرهاصات حرب العملات إلا إحداها، بينما تتحرك الصين بهدوء نحو النموذج الليبرالي... هناك تبادل وحراك بين النموذجين. الإشكالية أن كل الدول العربية، خصوصاً تلك المتأثرة منها كانت ولا تزال تأخذ بسياسات انتقائية أو تخبطية، فلا أحد يستطيع وصف نهج أي منهم... التنمية الحقيقية تتطلب الأخذ بمنهج تجاري لحين التمكن من الإنتاج والتنظيم الداخلي، ثم التدرج نحو المنهج الليبرالي، ولكن المراقب للثورات العربية يلاحظ مطالبة الجماهير (المظلومة والمتظلمة) تطالب بنتائج ومخرجات المنهج الليبرالي من دون المرور بالمنهج التجاري. هذا الانفصام بين السياسة والاقتصاد في مستوى، وبين توقيت اختيار المنهج في مستوى آخر، هو السبب الرئيس في فشل الدول العربية الذريع. تقف النخب العربية من دون رؤية وقدرة أحياناً على تقديم الحلول في ظل مطالبة الجماهير بنظام ديموقراطي يهدف في الأساس إلى قطف ثمار نجاح تجاري لم يؤخذ به أصلاً، ولذلك فإن الثمرات غير موجودة، الأدهى والأمر أنه من السهل بيع الجماهير الغاضبة أحلاماً وردية. * كاتب سعودي.