بداية: هذه مقاربة فكرية أكثر منها مقارنة سياسية، فالبون شاسع بين الطرفين، ولكن مع ذلك قد يجتمع (الأقرب والأخطر) في أحد الطرفين من خلال النظر لهذه الحالة ودراستها بشيء من المقارنة. ومثار هذا التساؤل، هو اليأس من الحالة العربية الراهنة (وخاصة مرحلة ما قبل ثورات الربيع العربي)، وقد دونت حالة اليأس من المشهد العربي، في مقالة بعنوان «مستقبل الاعتماد على الذات العربية»، (نشرتها في جريدة «الشرق الأوسط»، بتاريخ: 15 مارس «آذار» 2008)، أي قبل الثورات العربية بأكثر من سنة وستة أشهر تقريبا، وإن كان بعض السياسيين يرى أن التدهور الاقتصادي العربي كان السبب وراء الثورات العربية، إلا أني وإن اتفقت مع هذا الرأي من ناحية الباعث الرئيسي للثورات، فإننا لا يمكن أن نتجاهل حالة الفوضى والاستبداد السياسي والأمني في المشهد العربي، فالتدهور الاقتصادي العربي إن كان هو الشرارة التي أشعلت المشهد العربي، فإن الفوضى والاستبداد والتهميش كان الوقود الحقيقي للثورات، والقادم أنكى وأشرس (والمشهد السوري نموذج للمرحلة العربية القادمة)، ولهذا الرأي تحليله القادم، لأعود مجددا للعنوان أعلاه. ففي حلقة النقاش التي تقدمت بها للأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، لمناقشة موضوع «دول الخليج العربية والقوى السياسية العربية الجديدة»، وتم عقد الحلقة تحت عنوان: (مستقبل العلاقات الإقليمية الخليجية في ظل صعود التيارات الإسلامية)، وكان لي تحفظي على العنوان لأن فيه استعداء مسبقا للتيارات الإسلامية التي تدير المشهد السياسي العربي، على الأقل في دول ثورات الربيع العربي (تونس، مصر، ليبيا، اليمن، ثم المغرب بالتبعية)، ففي حلقة النقاش هذه طرحت بشكل مباشر (مسألة الأقرب والأخطر) في سياق الحديث عن العلاقات المستقبلية لدول الثورات (على المسارين الإقليمي والدولي)، والتخوف من علاقات دول الثورات مع إيران (بحكم النظرة السطحية لدى بعض المحللين السياسيين للبعد الديني كقاسم مشترك بين إيران والقيادات السياسية العربية الجديدة ذات الطابع الديني - الإخواني)، من جانب، ومن جانب آخر، الرؤية الليبرالية للعلاقة المتجذرة بين «الإخوان» (عرابي المشهد السياسي العربي الجديد) وإيران كدولة داعمة لهم؟! وإن كانت هذه تهمة ليبرالية تحريضية ضد «الإخوان» أكثر من كونها قناعة حقيقية مبنية على رصد معرفي موثق للعلاقة المزعومة بين الطرفين (الإخوان وإيران)، ولعل إيران بشكل أو بآخر أرادت أو سعت لأن يكون هناك رابط بينها وبين جماعة الإخوان؛ لتكسب الجولة وتجني الثمرة العربية المرتقبة ولو على المسار العربي الشعبي. لعلي في هذا التقدمة الطويلة التي سقتها كممهدات لطرح السؤال بشكل جواب مباشر، نابع من إدراكي لرد الفعل (غير المتعمق، أو المبني على الشك) تجاه هذه المسألة، وحتى ندرك من الأقرب يجب أن نعي من الأخطر على المستوى الاستراتيجي الخليجي. ولا شك في أن إيران، بجنوحها تجاه المنطقة، تمثل التهديد والخطر الأول لقلب العالم الإسلامي (المملكة العربية السعودية على المستوى الديني، وعلى المستوى الجغرافي: عموم دول الخليج العربية، ومصر لاحقا بعد رفضها الصريح للتشيع ومواجهة مؤسساتها الدينية له)، إلا أن الخطر الإيراني ظاهر، وهو شعور شعبي شبه عفوي؛ وذلك لحالة العداء الديني التلقائي على المستوى الشعبي لإيران، سواء إيران الشيعية، أو إيران الفارسية، أو بكلا وجهيها. وفي المقابل: تأتي تركيا حزب العدالة والتنمية بثوبها الجديد والقشيب، تركيا عبد الله غل وأردوغان اللذين نقلا تركيا من حالة التردي الاقتصادي، والفساد والاستبداد السياسي والمالي، إلى نموذج عصري راق جدا، جمع بين الوجه الإسلامي المتسامح، والرؤية العصرية المتعمقة، فأصبحت من دولة تركض بانسلاخ باتجاه الاتحاد الأوروبي، إلى دولة تتمثل في كيان شامخ مستقل، مستغن بذاته وإمكاناته وإرادته، يملؤه طموح تركي في استعادة أمجاد تاريخية. وهنا، يبرز النموذج الأخطر!! لأنه الأقرب على كل المستويات: - على المستوى الشعبي، لأن تركيا دولة سنية تناصر القضايا الإسلامية العادلة بكل قوة واستقلالية. - وعلى المستوى السياسي، لأنها قدمت نموذجا ناجحا في القيادة السياسية ذات البعد الديني الإسلامي، حيث نقلت تركيا وشعبها إلى مصاف الدول المتقدمة ديمقراطيا، واقتصاديا ومعيشيا، والأهم الإرادة السياسية المستقلة. - وعلى المسار التاريخي، لأنها أرض الخلافة الإسلامية للدولة العثمانية التي حملت عزة الإسلام أمام الغرب المسيحي قرونا طويلة. قد نتفق على هذه المسارات وقد نختلف، وليست هنا المشكلة، ولكن القضية الأساسية تتصل بفهم واستيعاب الزاوية التي يمكن النظر من خلالها للخطر التركي، فالتجربة التركية ليست خطرا بذاتها، ولكن الخطورة في التجربة التركية، في اتجاهين: الأول: الدعم الغربي - الأميركي لهذه التجربة، والنظر إليها كنموذج جدير بدعمه، وتعميمه على المنطقة، وهنا مكمن الخطر الحقيقي، لأن الغرب لا يريد بنا الخير خارج مصالحه الاستراتيجية. والثاني: فرضية نقل تجربة حزب العدالة والتنمية، للمشهد السياسي العربي من منظور التبعية الحزبية، وليس من جانب الاستفادة من المنهجية السياسية الفاعلة، فالتبعية الحزبية قد تمتد إلى مسارات أخرى خارج السياق الموضوعي للمصلحة الوطنية الشعبية إلى مجرد الروابط الحزبية. - فتجربة حزب العدالة والتنمية التركي، نجح في تركيا على المستوى الداخلي، ثم نجح في نقل التجربة (وإن لم يكن متعمدا ومخططا له) على مستوى القيادات السياسية العربية الجديدة، في وقت كان النموذج الماليزي ناجحا وقائما قبل الثورات العربية بأكثر من عقدين من الزمن، ولم يلتفت إليه أحد!! وهنا يكمن العجب. - ليس الخطر في وجهة نظري أن تمتد التجربة التركية، لتنتشل العالم العربي من أوضاعه المتردية، إطلاقا، فما من مسلم يجرؤ أن يرفض الحل الإسلامي لمشاكل عالمنا العربي، أو يستعدي هذا الحل، أو ينظر إليه كخطر في ذاته (وهنا، تأتي إشكالية الفهم، أعني الفهم المبني على الظن، أو الفهم السطحي المتعجل). ولكن الخطر المستقبلي من وجهة نظري أن تستقل القيادات السياسية العربية الجديدة (النابعة من أحزاب الإخوان المسلمين في دول الثورات)، بحكم العلاقة الحزبية، وبدعم من شعوبها المتعاطفة لتستغني بتركيا (النموذج) في أولويات سياساتها وعلاقاتها الاستراتيجية، عن العلاقات الإقليمية الحالية (ضمن منظومة جامعة الدول العربية التي تثبت مع الأيام عجزها وترهلها)، فتنشأ بذلك منظومة علاقات دولية - إقليمية جديدة، مبنية على تبعية حزبية، فتتحول القوى الإسلامية المؤثرة من الوسط الإسلامي إلى الأطراف، فتنشأ بؤر نزاع مستقبلي. - أنا هنا لا أستعدي الرأي العام السياسي العربي ضد الكيانات السياسية العربية الجديدة، ولكني ألفت الانتباه إلى أنه قد تظهر عوامل بديلة مؤثرة في الروابط السياسية الاستراتيجية العربية، يفقد بها العالم الإسلامي في عمقه العربي الأصيل القيمة الذاتية، وتنتقل بشكل عكسي لمشهد سياسي إسلامي مبني على رؤى وعلاقات خاصة، القيمة الحزبية فيها مقدمة على القيمة الذاتية. خلاصة القول: لا شك في أن جنوح إيران سيظل التهديد الرئيسي للمنطقة على كافة المستويات، ولا يمكن التقليل من حجم وقوة الخطر الإيراني (تكتيكيا واستراتيجيا)، وإن مما يهون شأن الخطر الإيراني، هو الوعي السياسي والشعبي به، والتعاطي بحذر معه. وفي المقابل (وليس هنا مجال للمقارنة)، يأتي الطموح التركي، وفق المعطيات التي سقتها سابقا، لتتأكد الأهمية للوعي المنهجي بالتعاطي مع الشأن التركي، فهي دولة صديقة، من عدة أوجه، أولها وأعمقها أنها دولة سنية، والثاني أنها عمق اقتصادي يمكن أن يكون شريكا اقتصاديا استراتيجيا، إضافة إلى أنها جغرافيا في الطرف الآسيوي الأوروبي وهنا ميزة حيوية في التأثير التركي الأوروبي، ويبقى هاجس الاستعلاء العرقي التركي تجاه العرب (ولعلنا نقرأ ونسترجع القرنين الأخيرين من الحكم العثماني للعالم العربي وما عاناه العالم العربي من التهميش، والنظرة التركية الدونية، وتجاهل أن العرب أصل الإسلام وحاملو رسالته)، وقد يخالجه السعي لعودة الإمبراطورية التركية في لباسها القومي - الطوراني، في سياق استعادة المجد والتاريخ العثماني. فأول ما نحتاج إليه في المرحلة العربية الجديدة، الوعي بالموقف السياسي العربي - الخليجي المعاصر، وتبدلاته المستقبلية، وأن نقود إعلامنا في مسار الوعي بمصالحنا الوطنية والشعبية. والله من وراء القصد. * رئيس مركز الإعلام والدراسات العربية - الروسية نقلا عن الشرق الاوسط السعودية