ستظل المجالس البلدية وانتخاباتها حدثا كبيرا وتحولا جوهريا في التنظيم الإداري العام، أو هكذا كان يتطلع إليها المواطنون عند بدايتها، خاصة مع الزخم الإعلامي الذي صاحبها والفاعليات والندوات ومواقع المرشحين ولافتاتهم وإعلاناتهم في الصحف والمقار الانتخابية ولجانها. لقد كان وقتا مفعما بالإثارة والاحتفالية والأمل والتفاؤل، كيف لا وسكان المدن يرون المجالس البلدية نافذة أمل تحقق لهم من خلالها تطلعاتهم وتعالج مشكلاتهم وتعبرعن همومهم وتتبنى قضاياهم وتتيح الفرصة عبر ممثليهم في المشاركة في عملية صنع القرارات التي تخصهم. إلا أن ذلك لم يتحقق بصورة كاملة لأن المجالس البلدية مجالس للبلديات وليست للبلدات، فصلاحياتها وأدوارها ضعيفة وضيقة في حدود الخدمات البلدية التقليدية. بينما المشكلات والقضايا المحلية معقدة ومتشابكة ومتداخلة وتتطلب إدارة شاملة لجميع قطاعات المدينة وليس فقط التركيز على الخدمات البلدية التقليدية. كثير من المواطنين لا يعلمون أن المجالس البلدية لا علاقة لها بالمياه ولا الصرف الصحي ولا بالنقل العام ولا بالتعليم، وهكذا في كثير من القطاعات المهمة. هذا الوضع يعني أنه لا يمكن صياغة خطط ومعالجة القضايا المحلية دون مشاركتها جميعا والتنسيق فيما بينها. وأكبر دليل على عجز المجالس البلدية وغياب الإدارة الشاملة للمدينة استباحت الشوارع والطرق العامة بالحفر والدفن لأن الشارع مشاع دون أن تكون هناك مرجعية مسؤولة عنه. ويمكن قياس ذلك على الكثير من المشاريع والخدمات العامة، إذ تتضاد وتتصادم سياسات ومشاريع القطاعات الحكومية المحلية المختلفة بعضها مع بعض، وهو وضع إداري أقل ما يقال عنه إنه متشرذم ويشكو من تدني الأداء والجودة، والأهم قصوره عن تلبية احتياجات سكان المدن ومعالجة مشكلاتهم. وبسبب هذا الضعف التنظيمي للمجالس البلدية واختزالها في دائرة ضيقة من الخدمات وعدم منحها الاستقلال الإداري والمالي فشلت، ولا أقول عجزت، في تحقيق طموح وتطلعات المواطنين والتصدي للتحديات التي تواجههم على المستويين الفردي والجماعي. القضية لا تتعلق بمسميات تنظيمية لا تغني ولا تسمن من جوع أو للاستهلاك الإعلامي، لكن تنظيمات قادرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى على معالجة المشكلات المحلية بحلول محلية. على سبيل المثال مشكلات البطالة والإسكان والازدحام المروري لا تستطيع المجالس البلدية بوضعها التنظيمي الحالي معالجتها، ليس لأنها لا تملك الصلاحيات الإدارية والمالية فحسب، لكن لأن دائرة نفوذها ضيقة لا تشمل القطاعات الأخرى. لذا عند إعلان تفعيل المجالس البلدية وخلال الحملات الانتخابية كان الناخبون والمرشحون على حد سواء يتطرقون وبكل ثقة لموضوعات كانوا يظنون أنها من اهتمامات المجالس البلدية، وقناعتهم التامة أن المجالس إنما أنشئت لغرض معالجة المشاكل المحلية مثل العنوسة والبطالة والإسكان وغيرها من الموضوعات التي تهم المواطن وذات تأثير مباشر في مستوى معيشته واستيفاء متطلباته الحياتية الضرورية. واستمرت هذه النظرة للمجالس البلدية حتى كانت المفاجأة الكبرى حينما اكتشفوا بعد وقت أن لا دخل لها في معالجة تلك المشكلات، وأنها مسؤولة فقط عن الأنشطة البلدية الفنية مثل صيانة الشوارع وجمع النفايات وإضاءة الشوارع وتنسيق الحدائق والمراقبة الصحية. فأسقط في أيدي أعضاء المجالس البلدية المنتخبين والناخبين وبدأت تظهر حالة من الإحباط والتذمر عبر عنها المواطنون بسخرية عن ضعف أداء المجالس البلدية وأنها عاجزة عن فعل شيء، وأن ما كانوا يأملونه وتحمسوا من أجله لم يكن إلا سرابا يحسبه الظمآن ماء. لم يقف التأثير السلبي للأداء المتواضع للمجالس البلدية عند هذا الحد، بل تعداه لأمر أكثر خطورة وهو أن المواطن فقد الثقة بفكرة المجالس النيابية والانتخابات، وهذا يعني قتل ثقافة التحاور ومبدأ النقاش والسعي لصيغة توافقية وحلول مشتركة في إدارة الاختلاف عبر وسائل حضارية سلمية، كما أن في ذلك تهميشا لدور المواطن في عملية التنمية وإضعاف انتمائه للمجتمع المحلي. لم يعد ممكنا النظر للمجالس البلدية على أنها ترف إداري أو سياسي، إنما آلية مهمة في التنمية المحلية والضبط الاجتماعي وتنسيق الجهود وتلبية احتياجات المواطن. إن النهج الذي اتبعه الملك عبد العزيز - رحمه الله - في الإدارة المحلية هو أن أهل المدن أدرى بمصالحهم، وأن الحاضر يرى ما لا يرى الغائب، فاستطاع بحكمته ونور بصيرته أن يحفز سكان المدن على الإسهام في تنمية مجتمعاتهم المحلية والقيام بمعالجة مشاكلهم، فقد كان يرى - رحمه الله - أن المشاكل المحلية تتطلب حلولا محلية. وعلى أن إنشاء الوزارات المركزية كان له أثر في التنمية الوطنية إلا أنها توسعت في مهامها حتى تولت مسؤولية صنع القرارات المحلية بعدما كانت منوطة بأمراء المناطق والمسؤولين المحليين، وإن كان ذلك ممكنا فيما مضى عندما كانت المجتمعات المحلية صغيرة وأقل إمكانات والقضايا بسيطة، إلا أنه من الصعب الاستمرار على النهج المركزي البيروقراطي ذاته. وبنظرة فاحصة للمشهد الإداري الوطني نجد أن كثيرا من المشاكل خرجت من رحم الأحياء المحلية، وأنه لو كانت هناك إدارات محلية تمتلك صلاحيات إدارية ومالية لتمكنت من وأدها في مهدها. إن مشكلات الفقر والبطالة والمخدرات والفساد الإداري على سبيل المثال دليل واضح على عجز الأجهزة المركزية من الناحية العملية والموضوعية، فهي تهتم وأكثر قدرة على تناول الموضوعات الوطنية الاستراتيجية وليس القضايا المحلية وتفاصيلها الكثيرة والدقيقة والمعقدة. ولتفعيل المجالس البلدية وجعلها أكثر قدرة على إدارة المدينة في وضعها التنظيمي الحالي أن يتم ضم رؤساء الأجهزة المحلية كأعضاء بالتعيين في المجالس من أجل أن يكون هناك تنسيق بحيث تكون هناك خطة مشتركة وقرارات يصدرها المجلس ملزمة لجميع الأطراف. سيؤدي ذلك على المدى القصير إلى رفع أداء المجالس ويوجد إلى حد كبير إدارة شاملة لجميع قطاعات المدينة. أما في المدى الطويل فهناك حاجة ملحة إلى إصدار نظام جديد للمجالس البلدية يُراعى فيه المتغيرات والمستجدات على الساحتين الداخلية والخارجية. المجتمعات المحلية أصبحت أكثر نضجا وارتفع سقف توقعاتها وتغير نمط استهلاكها، ولا بد أن يكون هناك تنظيم لعملية صنع القرار المحلي يتناسب مع الأوضاع الجديدة، وحقق مبدأ إداريا في المساواة بين المسؤوليات والصلاحيات. نقلا عن الاقتصادية