د. عدنان بن عبد الله الشيحة - الاقتصادية السعودية كنت قد طرحت في مقال الأسبوع الماضي تساؤلا حول الهدف من المجالس البلدية والتأثير النهائي لها اقتصاديا واجتماعيا. كان القصد من السؤال المطروح: "لماذا المجالس البلدية؟"، إثارة الانتباه إلى أن المجالس تدور في فلك ضيق من الصلاحيات والأدوار، وأن الحديث عن مستوى أدائها مرتبط إلى حد كبير بمساحة الصلاحيات الإدارية والمالية الممنوحة، ونطاق واسع للمسؤولية لإدارة المدينة بجميع قطاعاتها الخدمية دون الاقتصار على الخدمات البلدية التقليدية. تناسب الصلاحيات مع المسؤوليات مبدأ أساس في الإدارة نظريا وتطبيقيا، والإخلال بهذا المبدأ يؤدي إلى تدني مستوى العمل كمّا ونوعا وجودة، وزيادة تعقيدات إجراءات توفير الخدمة العامة. والواقع يشير إلى أن مسؤوليات المجالس كبيرة, فسكان المدن الذين يواجهون تحديات كبيرة ومشكلات معقدة ومتداخلة يتطلعون إلى أن يكون نظام المجالس البلدية على قدر هذه التحديات ويمكنهم من مواجهتها والتصدي لها. ما حدث في محافظة جدة من جراء السيول على سبيل المثال هو في معظمه نتيجة لهذا الخلل في الصلاحيات والأدوار الخجولة للمجالس. والحقيقة أن فاقد الشيء لا يعطيه، فالمجالس لا حول لها ولا قوة في كثير من القضايا المحلية التي ترتبط بصميم عملها, لكن لا تدخل ضمن صلاحياتها من الناحية النظامية! وهنا يبرز السؤال: لماذا لا تكون المجالس البلدية هيئات محلية ذات استقلال إداري ومالي مسؤولة مسؤولية شاملة عن إدارة جميع القطاعات الخدمية في المدينة؟ إضافة إلى صياغة الاستراتيجيات التنموية المستقبلية بدلا من أن تكون مجالس للأجهزة البلدية؟ والسبب هو غياب النظرة الشاملة الموضوعية للقضايا العامة والاكتفاء بالنظر إليها من منظور قطاعي مجزأ ليقوم كل جهاز حكومي بتقديم خدماته بمنأى عن الآخر. هذا الوضع الإداري إفراز لمفهوم خاطئ لدور الحكومة في المجتمع كمانح للخدمات العامة دون تداخل ومشاركة من السكان في علاقة غير ناضجة تتصف بالاتكالية والسلبية بحيث يتوقع من الحكومة أن تعطي والناس تأخذ باتجاه واحد فقط. ليكون التركيز على تقديم الخدمات بغض النظر عن مستوى الطلب الاجتماعي عليها ورضا الجمهور. لنجد في بعض الأحيان خدمات أكثر مما هو مطلوب, وأحيانا أخرى أقل مما هو مطلوب كما ونوعا. أمر آخر في هذا السياق على قدر كبير من الأهمية، هو عدم التمييز بين المستويات الإدارية الوطنية والإقليمية والمحلية, ما يؤدي إلى الخلط بين الأدوار والمسؤوليات وتعدد المرجعيات لمجلس المنطقة والمجالس المحلية والبلدية والوحدات الإدارية الأخرى ليسيطر النهج المركزي على عملية صنع القرار، ما يترجم إلى ضآلة الصلاحيات الممنوحة للمحليات. هذا الوضع الإداري العام يشير إلى أهمية صياغة نظام للإدارة المحلية يحدد المسؤوليات والأدوار, وهو أمر يتعدى الحديث عن المجالس البلدية بصيغتها الحالية ويخرج عن دائرة مسؤولية وزارة الشؤون البلدية والقروية. وهذا ما يجب التأكيد عليه لتتم مناقشة الموضوع في دائرة أكبر ومستوى أعلى, وبالتالي عدم تحميل المجالس البلدية والوزارة ما لا يستطيعانه ولا يدخل ضمن اختصاصاتهما. كان ذلك تحليلا لواقع إدارة المدن والتطلع لوضع أفضل للمجالس البلدية, أو بشكل أدق وأشمل الإدارة المحلية يتناسب مع معطيات المرحلة وما يكتنفها من متغيرات. فالمجالس البلدية وانتخاباتها كما ذكرنا في المقال السابق لا يفترض أن تكون شكلية أو كمالية, إنما هي آلية مهمة في صناعة القرار وإدارة وتطوير المجتمعات المحلية, وينبغي أن تحقق ذلك. قد تستغرق عملية إصدار نظام للإدارة المحلية وقتا طويلا لأنه يتطلب تعاون قطاعي الداخلية والبلديات في الدفع نحو جعله أولوية وطنية. وهذا أمر في غاية الصعوبة والسبب أن الإدارة المحلية نحسها ولا نراها، فرؤيتها تتطلب نظرة وطنية مشتركة وليس نظرة مجزأة عبر أجهزة بيروقراطية مركزية منشغلة بأهدافها ومشاريعها دون ارتباطها باستراتيجية وطنية تنسق فيما بينها ليصل الأمر حد التنافس, وربما التضاد! في ظل هذا الوضع الإداري كيف للمجالس البلدية أن تعمل في دائرة الصلاحيات والأدوار الضيقة؟ هذا يستلزم أولا أن تكون هناك نظرة تفاؤلية من منطلق أن المجالس تمثل خطوة ولو بدت صغيرة على طريق التنمية الإدارية الصحيح والطويل جدا. وهي بلا شك أضافت إلى قاموسنا السياسي والثقافة الإدارية مفاهيم وممارسات لم تعهد من قبل, بل كانت تعد من المحظورات مثل المشاركة في عملية صنع القرار والانتخابات العامة والرأي العام وغيرها. بهذا تكون المجالس البلدية وانتخاباتها بمنزلة تدريب للعموم على الانخراط في العملية السياسية ومناقشة القضايا العامة في إطار من القانون العام، ولذلك كان النجاح الذي سجلته عملية الانتخاب السابقة من انتظام والتزام بالإجراءات من جميع الأطراف بعيدا عن العبث والمخالفات، أمرا يبعث على الارتياح ويحفز لتوسيع دائرة المشاركة الشعبية. وما يزيد من الثقة أن الانتخابات تمت إدارتها من قبل لجان وطنية 100 في المائة, وهو ما يحسب لوزارة الشؤون البلدية والقروية والأمانات والبلديات التابعة لها والأجهزة الحكومية الأخرى. الأمر الثاني لتفعيل المجالس أن تكون إدارة استخدامات الأراضي الإطار العام الذي ينطلق منه عمل المجالس البلدية لأن الأراضي مكان النشاط الاقتصادي والاجتماعي والقاسم المشترك بين جميع الخدمات الحكومية. فمن خلال إدارة استخدامات الأراضي يستطيع المجلس توجيه التنمية الاقتصادية والسيطرة على النمو الحضري للمدينة. المخطط الشامل للمدينة هو بمنزلة خطة الطريق لتفعيل العمل البلدي بمفهومه الشامل. وربما كان المخطط الشامل وتشريعات استخدامات الأراضي القوة الخفية للمجالس في تحقيق النظرة والعمل المشترك بين جميع الأطراف في المجتمع المحلي. وإذا ما تم التعاون مع تلك الأطراف المؤثرة وعلى وجه الخصوص الغرف التجارية والصناعية فإن ذلك سيعزز قدرة المجالس على صياغة استراتيجية للتنمية المحلية يتم من خلالها جذب الاستثمارات وبناء القدرات المحلية وتوفير فرص وظيفية ذات دخول عالية. كما أن ذلك أدعى لمواجهة كثير من التحديات والصعوبات ذات الطابع المحلي, التي تتطلب حلولا إبداعية شمولية محلية وليست بيروقراطية مركزية مجزأة. وهذا يتطلب أن يكون أعضاء المجالس البلدية المنتخبون والمعينون على قدر كبير من الدراية في مجالي الإدارة العامة والتخطيط الحضري. وربما كان إلزام كل مرشح بأن يقدم ويشرح برنامجه الانتخابي, إضافة إلى عقد مناظرة بين المرشحين في اجتماع عام يضم سكان الدائرة الانتخابية هو السبيل إلى انتخاب الأفضل. هكذا حتى نضمن حدا أدنى من النجاح في ظل نظام لا يمنح الصلاحيات الكافية.