لماذا وجدت فكرة التوريث في الجمهوريات العربية؟ بكل بساطة لأن الفكرة موجودة في ثقافتنا القبلية الضاربة بجذورها في عمق تاريخنا القديم، والتي لم نستطع التخلص منها رغم دخولنا عصر الحداثة التقنية والمعرفية، لا يزال داخل كل منا «بدوي صغير» منطو تحت سترة شفيفة من قماشة حياة القرن الحادي والعشرين. الشعب قبيلة كبيرة والرئيس شيخ القبيلة أو العشيرة في البلاد التي أنبتت بكرا وتغلب وأشياخ العشائر. ومع أن فكرة توريث الحكم تاريخيا موجودة لدى معظم الأمم والشعوب في الشرق والغرب، فإن دخول الغرب مرحلتي النهضة (renaissance) والتنوير (enlightenment) - اللتين لم نمر بهما بعد - قد أسهم بشكل كبير في القضاء على الفكرة في البلدان الغربية التي تنتهج النظام الجمهوري، وإن بقيت الفكرة لدى الملكيات الغربية الدستورية التي تحولت مع الزمن إلى جزء من التاريخ في كونها ترمز فقط إلى تاريخ البلد دون أن تحكمه أو تدير شؤونه اليومية إلى الحد الذي قلص الفرق بين الأنظمة الملكية والجمهورية في البلدان الغربية إيجابا لصالح الديمقراطية التي أصبحت سمة الأنظمة الغربية المعاصرة ملكية كانت أو جمهورية. فكرة التوريث - إذن - مرتكزة على تراث ثقافي قبلي يلي فيه ابن شيخ القبيلة أو أخوه مشيخة القبيلة حال موت الشيخ، ومن هنا جاءت فكرة توريث الحكم على المستوى السياسي، لم نستطع التخلص من ثقافتنا القبلية فظل رؤساؤنا شيوخ قبائل وبدلا من أن نكون شعبا ظللنا قبيلة كبيرة محكومة بعرف قبلي سمي حينا دستورا وحينا قانونا، غير أن التعامل معه وتطبيقه كان دائما على اعتبار أنه عرف القبيلة لا دستور الدولة أو قانونها. والحقيقة أن المحاولة الأولى التي كسرت فيها هذه القاعدة القبلية في الجزيرة العربية هي يوم اجتمع نفر من المسلمين بعد موت نبيهم في سقيفة بني ساعدة حيث كان العرف القبلي يحتم أن تكون الخلافة في علي (رضي الله عنه) على اعتبار أنه ابن عم النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث لا أبناء للنبي (صلى الله عليه وسلم) ولا إخوة، غير أن الناس انتخبوا أبا بكر (رضي الله عنه) في عملية ديمقراطية تعد أول ممارسة ديمقراطية في التاريخ السياسي العربي، وأول محاولة لترسيخ مبدأ الديمقراطية الشوروية بعيدا، عن أعراف قبائل العرب التي فهمت أن الإسلام هو مجد قرشي يحتم أن تكون الإمامة في قريش مدى الدهر، وهو ما يتناقض مع مبادئ الإسلام، كما يتناقض مع بدهيات العقل، مع العلم أن انتخابات السقيفة أسفرت عن تعيين قرشي على رأس الدولة على أساس أن العرب لا تدين إلا لقريش وهي حجة سياسية لا دينية، بمعنى أن الأوفق سياسيا - من وجهة نظر الصحابة حينها - أن يحكم قرشي في تلك الفترة بناء على اجتهاد سياسي لا نص فيه. وبعد فترة الحكم الراشدي عادت فكرة التوريث عمليا مع الأمويين ونظريا مع الهاشميين. ولئن كان الأمويون قد أساءوا عمليا إلى مبدأ التداول السلمي للسلطة في الإسلام كما حدث إبان فترة الراشدين أبي بكر وعمر، فإن إساءة الهاشميين للفكرة الديمقراطية لا تقل عن إساءة الأمويين إن لم تتفوق عليها لأن الهاشميين جعلوا الإمامة ميراثا هاشميا (تحت مسمى حق آل البيت) وألبسوها ثوبا لاهوتيا جعلها تشبه إلى حد كبير نظريات الحق الإلهي عند الفرس والهنود التي انتقلت إلى الغرب الذي قضى عليها بدوره بعد سلسلة من المجاهدات الفكرية والعملية. الحقيقة أن بني أمية قد أعادوا فكرة التوريث عمليا (كونهم كانوا سلطة) كما أعادها بنو هاشم نظريا (كونهم كانوا معارضة) بعد أن ألبست ثوبا دينيا لاهوتيا أوقع بني هاشم فيما أخذوه على بني أمية، وكلا الفريقين كان بعيدا عن نظرية الشورى الديمقراطية التي جاء بها الإسلام لحكم الناس. لم يجن القرشيون (مع اعتبار جليل خدماتهم) على الأمة بإعادة فكرة التوريث عمليا عند الأمويين ونظريا عند الهاشميين وحسب، بل إن الجناية تجاوزت ذلك إلى أن هذه الفكرة القبلية قد ألبست في عصور الصراع الأموي الهاشمي والهاشمي الهاشمي (العباسي العلوي) ثوبا دينيا كما ذكرنا يترتب عليه كفر وإيمان، إلى الحد الذي رفعت معه الفكرة عند شيعة العلويين بعد ذلك إلى درجة أصل الدين بعد أن جعلت الإمامة حقا وراثيا يخلد في النار كل من لم يؤمن بأنها حق لعلي ووراثة لذريته من الأئمة (رضي الله عنهم) كما عند المفيد وأضرابه من الإثني عشرية. ومنذ ذلك التاريخ البعيد استمرت أفكار التمديد والتوريث إلى أن آلت إلى الجمهوريات المعاصرة مع استثناء فترة مرحلة ما بعد الاستقلال من الاستعمار حيث مرت فترة لم يكن هم الرئيس العربي حينها التوريث قدر ما كان همه فيها محاولة تثبيت النظام الجديد، ومواجهة صراعات مفتوحة داخلية وخارجية بعد الاستقلال، وهذا ما جعل عبد الناصر والسادات في مصر والسلال والإرياني في اليمن مثلا لا يفكرون في توريث من نوع ما. لا بد لنا - إذن - لكي نؤسس للمرحلة القادمة ونحن نمر بفترة مخاض تاريخي أن نتذكر أن أفكار التوريث التي سيطرت على المشهد السياسي والإعلامي في بعض الجمهوريات العربية لا تعدو كونها تراثا قبليا خالصا ألبسه أسلافنا ثوبا دينيا، لا بد أن نتذكر أن هذه الأفكار الضاربة في قدمها هي التي هيأت المجتمعات العربية لتقبل فكرة أن يحكمها رئيس واحد مدى الحياة وإذا مات ورث الحكم من بعده لابنه أو أخيه. لا بد من إعادة الاعتبار للعملية الديمقراطية الأولى في سقيفة بني ساعدة، بإسقاط كافة الأفكار المرتبطة بمراحل الصراع في تاريخنا بين أفخاذ قبيلة قريش المختلفة بعد الخلافة الراشدة، تلك المرحلة التي أنتجت فينا حقوقا إلهية لفئة دون غيرها حين كان الأمويون يستندون إلى نصوص في عثمان (رضي الله عنه) ليثبتوا حقهم في الحكم والعلويون يتحدثون عن نصوص في فضل علي (رضي الله عنه) ليثبتوا حقهم الإلهي في الإمامة. هذه مرحلة لا بد من مراجعتها في تاريخنا الفقهي والسياسي أو في تاريخ فقهنا السياسي، لأنها بكل بساطة ليست تراثا دينيا وإنما تراث قبلي بامتياز. ومع هذا فإن العيب ليس في الأسلاف الذين أسسوا عمليا (الأمويون) أو نظريا (الهاشميون) لهذه الأفكار لأنهم كانوا محكومين بظروف تاريخية سوغت لهم على الأقل الذهاب هذا المذهب. العيب فينا نحن الذين لا نزال ننظر بقدسية دينية لهذه الأفكار التي أفرزتها عصور الصراع باستناد إلى نصوص في معظمها تحتمل تأويلات مختلفة بما يحتم عدم التزام تأويل واحد في فهمها والتأسيس عليه وجعله دينا يعبد الله به ويخلد في النار كل من خالفه. العيب في عقول لا تزال تفسر حديث «الأئمة من قريش» على أساس عرقي دون أن تعي أن «القرشية» هي مجموعة خصائص ومواصفات سياسية لا دخل لها بقريش القبيلة، وإنما القرشية فكرة ومجموعة خصائص من انطبقت عليه صلح للإمامة أو الحكم ولو لم يكن من قريش نسبا ومن انتفت عنه لم يصلح للإمامة أو الحكم ولو انتسب لقريش، والعجز كذلك في العقول التي لا تزال تصر على حصر الإمامة في آل النبي (صلى الله عليه وسلم) ناسين أن الآل كذلك هي فكرة ومجموعة قيم وخصائص من اتصف بها صلح للإمامة والحكم ولو لم يمت للنبي (صلى الله عليه وسلم) بصلة قرابة ومن انتفت عنه لم يصلح للإمامة ولو انتسب إلى النبي (صلى الله عليه وسلم). أخيرا لقد جنت صراعات قريش على الأمة الشيء الكثير الذي قسمها إلى شيع وأحزاب ولكل حزب أدلته في تأكيد حقه في الحكم وكأن الله لم يقل «إن الحكم إلا لله» في إشارة إلى أن الأفراد لا يمكن أن يحكموا إلا بتفويض من ورثة أوامر الله، وورثة أوامر الله في التقدير هم مجموع الأفراد الذين يشكلون الأمة في مجموعها، ولا يكون ذلك إلا بالانتخاب الحر الديمقراطي الذي حدث لأول مرة في سقيفة بني ساعدة. وعلى ذلك فإنه ما لم نعد النظر في الثقافة القبلية التي أنتجت عملية التوريث في جمهورياتنا فإن ثورات الربيع العربي ستعيد إنتاج الرؤساء الذين قدمت التضحيات من أجل ذهابهم. لا بد إذن من إسقاط الثقافة التي أنتجت فكرة التوريث حتى لا تعيد إنتاج أنظمة التوريث مرة أخرى. نقلا عن الشرق الاوسط السعودية