أثار مقال ''تنمية المناطق.. بين الوزير والحاكم الإداري''، نقاشات متعددة مع بعض المهتمين بالشأن التنموي، حيث اتفقنا على أمور واختلفنا حول أمور أخرى. وكانت إحدى النقاط المتفق عليها هي معاناتنا من ''البيروقراطية'' التي عرقلت التنمية وفرخت حالات الفساد الإداري والمالي (القاعدة الذهبية: اقضْ على البيروقراطية، تقضي على الفساد وليس العكس!). وكما كانت ''الدمغة'' رمزا للبيروقراطية المصرية، و''الشريط الأحمر'' الذي تحزم به المستندات رمزا للبيروقراطية الغربية، ظلت البيروقراطية السعودية موسومة ب ''الملف العلاقي'' الذي تكشف دفتاه عن بيروقراطي يتلذذ بالرفض (النظام لا يسمح)، والتأجيل (راجعنا بكرا)، و''التصريف'' (ليس اختصاصنا)، وهي خصال يتفاخر بها أمام بنو ''دمغته''! غير أن البيروقراطية السعودية لم تأتِ من فراغ، فقد خرجت من رحم الأنظمة الإدارية (أنظمة ولوائح الخدمة المدنية)، والأنظمة المالية (الأنظمة واللوائح المتعلقة بالمصروفات والإيرادات والعقود والمشتريات الحكومية)، ومع مرور الزمن أسهمت الأنظمة الاستثمارية في تجذر المشكلة. البيروقراطيون عندنا يستطيعون اختلاق مئات المبررات لتثبيط مبادرات الإصلاح وعرقلتها، فقد اعتادوا على الروتين وشابوا عليه، ولا يريدون أي تغيير يترتب عليه تجربة جديدة ووقوع في الأخطاء، لأنهم يخشون الإقدام على المخاطر ويجفلون عن اتخاذ القرارات، فيعمدون إلى السير بجوار الحائط محتمين بالأنظمة واللوائح، رغم أن هذه النصوص القانونية تمنحهم صلاحيات محددة لا يرونها أو لا يودون رؤيتها، وكأني بهم يفسرون النصوص بتشدد أو يأخذون بمنهج التعسير لا التيسير على المواطنين.. وهذا هو اللامعقول. لا معقول.. أن نقيم ''بطولة تنس'' نقذف فيها الباحثين عن عمل من جهة إلى جهة، كما نفعل بحملة الدبلومات الصحية، يذهبون إلى وزارة الخدمة المدنية فتحيلهم إلى وزارة الصحة، يتجمهرون أمام مبنى الأخيرة، فترمي بهم إلى أرض الأولى! ولا معقول.. أن يعاني المعلمون من تأخر التثبيت، ويترددون هنا وهناك، يتقافزون في الهواء بين ''مضارب'' ''المالية'' و''التربية'' و''الخدمة المدنية''! ولا معقول.. أن يغيب التنسيق بين الوزارات في المشروعات الكبرى، كما حصل مع وزارة المياه والكهرباء ووزارة الشؤون البلدية والقروية، حين قامت الأولى بإبرام عقد مشروع إنشاء شبكة الصرف الصحي لمحافظة جدة بتكلفة بلغت مليار ريال، دون تنسيق مع الوزارة الثانية، والنتيجة تعثر المشروع وتأخر مقاول وزارة المياه عن التنفيذ لأن وزارة الشؤون البلدية كانت تنفذ مشروعات أنفاق في الزمان والمكان نفسه! ولا معقول.. أن تجتمع ثلاث وزارات (التجارة والصناعة، والمالية، والزراعة) فتشكل ''لجنة'' (الرابطة المحببة لدى بني بيروقراط) لدراسة ارتفاع أسعار حليب الأطفال في السوق، علما بأن اللجنة الموقرة ما زالت تدرس الموضوع منذ كانون الأول (ديسمبر) الماضي، والأسعار تتصاعد، ولا ندري متى ستقرر وتتخذ إجراءات حاسمة؟ ثم أليس من صلاحيات وزارة التجارة وحدها أن تضع حدا لارتفاع أسعار السلع من الحديد إلى الحليب؟ لماذا تجتمع ثلاث وزارات في موضوع هو اختصاص وزارة واحدة؟ ولا معقول.. أن ُتحرم سيدة الأعمال السعودية من مزاولة نشاطها التجاري إلا عن طريق ''وكيل'' يراجع نيابة عنها الدوائر الحكومية. ولنا أن نتخيل كم من سيدة أعمال سلبت حقوقها، لأن هذا الوكيل (المؤتمن) أساء صلاحياته فباع واشترى باسمها ودون علمها وكنز الأموال في حساباته؟ ولا معقول.. أن ُتجبر المعلمة على العمل في منطقة نائية يرفضها الرجال الأشداء، وعندما تقبل مكرهة يطلب منها ''محرم''، وإذا لم يتوافر، تهدد بطي قيدها! إنها البيروقراطية.. حلول أسوأ من المشكلات ذاتها.. لكن أنجع الحلول لمواجهة غول البيروقراطية هو إعادة النظر في الأنظمة الإدارية والمالية والاستثمارية، مع تبسيط وتوثيق الإجراءات والابتعاد عن التعقيد والتعليمات الشفوية والاعتماد على الشفافية والوضوح عند التعامل مع عملاء الدوائر الحكومية وموظفيها، مع التوجه نحو هندسة الإدارة (الهندرة)، التي تهدف إلى تسريع الأداء (إعادة تصميم العمليات والتخلص من الإجراءات غير الضرورية) وتخفيض التكاليف وتجويد الخدمات/ المنتجات. فخبراء هندسة الإدارة يسألون البيروقراطيين أربعة أسئلة: (1) لماذا نتخذ هذا الإجراء؟ (2) ماذا يستفيد العميل من هذا الإجراء؟ (3) هل يحقق الإجراء المتخذ أهداف المؤسسة؟ (4) كيف يمكن اتخاذ الإجراء بطريقة أمثل؟ لذلك، بودي أن أقدم: كتاب عن هندسة الإدارة، وكتاب عن اتخاذ القرارات، ورواية ''الخدعة 22'' للأديب الأمريكي جوزيف هيلر (1961) التي كشفت بطريقة ساخرة عن البيروقراطية وحكت قصة جندي يتمارض ويختلق الأعذار غير المقبولة للتهرب من عمله وواجباته.. إنها هدايا لكل سادن من ''سدنة'' الخدمة المدنية، لعله يقرأها فيرى أو يبصر! نقلا عن الاقتصادية