في يوم غائم جميل قررت الخروج مبكرا إلى العمل واصطحبت معي أبنائي إلى المدرسة في شمال المدينة، ثم سرت جنوبا على طريق الملك عبدالعزيز متجها إلى الجامعة. وقبل وصولي توجهت إلى الجنوب، إلى منطقة المكتبات لقضاء بعض حوائجي، وسلكت دروبا خلفية وأمامية تفاديا لاختناق الشوارع وفوضى المرور المستفزة. وفي شوارع الحدائق الخلفية من حي الجامعة وما جاورها من أحياء الجنوب، كان ينتظرني ما هو أدهى من اختناقات المرور وأمر من مطبات الشوارع.. هناك تجد المجهول! مستنقع ماء لا تدري كم عمقه، تحيط به أسراب البعوض، ولا بد لك أن تجتازه. تقف أمامه حائراً، ثم تلقي فيه حجارة بأحجام مختلفة، وهي في وفرة هنا وبكثرة، وتنتظر لتسمع متى يستقر وتقدر عمق الحفرة، فالماء أسود آسن، لا يمكن أن ترى من خلاله. ثم تقرر أن تتكل على اللطيف الحفيظ، وتعبر راجيا ألا تكون أرضية الحفرة بمستويات متفاوتة، وأن حجر الاختبار لم يقع على هضبة فيها. وهكذا استغرقت الرحلة طويلا لكن وصلنا بسلام وقليل أو كثير من مياه المجاري على أطراف السيارة وجوانبها، ولله الحمد والمنة. ليس حديث اليوم عن السوء المشهود في الشوارع الخلفية في الأحياء الجنوبية، ولا عن المطبات على الشوارع الأمامية، ولا عن فوضى المرور والاختناقات التي تصيب المنطقة. فعندما عدت إلى مكتبي استرجعت صور المكان المغدور، وفجأة ظهرت لي معها صور أخرى غريبة عن المكان، كانت لطريق الملك عبدالعزيز الذي سرت فيه قبل قليل، وتداخلت مناظر المروج الخضراء والأزهار البيضاء والملونة بكل ألوان الطيف، والطريق الممهدة والأرصفة المنسقة والأشجار بألوانها الزاهية مع صور المآسي على شوارع الجنوب، فتشوهت الصور الأصلية بالمتناقضات.. ورأيت كيف يقسو الفقر! نزعم أن الكل سواسية كأسنان المشط، لكن لا نجد الأمانة تنظر إلى الناس في الأحياء الفقيرة كذلك؟ ولعله "قذى بالعين"، خاصة تلك التي تنظر بها إلى الأحياء الجنوبية في المدينة. وأرجو بعد هذا ألا تعمد الأمانة إلى تخريب الطرقات في الشمال لتحقيق العدالة واستجابة لنداءات المساواة. والفقير يلاقي الأمرين في كل شؤونه.. أناس لا هم لهم إلا تجريده، عن طريق القروض، مما بقي له من الفتات. ظلم.. أن يدفع الفقير لما يحتاج إليه في حياته اليومية من مواد وخدمات أكثر مما يدفعه الغني. لا تعجب كيف يدفع أكثر ليقتني سيارة، ولا كيف ينفق أكثر لتشغيلها وصيانتها. يشتريها بالتقسيط، وما أدراك ما هو، لا ضابط له ولا كابح لجماحه، وتفعل بنا البنوك ومؤسسات التقسيط ما تشاء. يأخذ منك/منه البنك 7.5% أرباحا بينما أسعار الفائدة العالمية لا تتجاوز 1%. ثم يحتسب عليك كامل المدة بكامل المبلغ بتمام الفائدة، ما يجعل الفوائد الفعلية أضعاف الذي تبدو عليه في العقد الموقع رغماً، ويفعل بك ما لن تجد له نظيرا في أي بلد آخر في العالم. وهذا، فيما يعني، تحميل المدين، ظلما، فائدة كامل المبلغ في آخر شهر، بينما لم يتبق للدائن في ذمته سوى 2% أو 3% من أصل القيمة، ويدفع حينها ما يفوق المتبقي من الدين. ومن العجب أنك تدفع الأقساط بالشهر الهجري للبنك، بينما يدفع لك هو الأرباح، إن كنت من أهلها، بالشهر الميلادي، والفرق بين. والغني له أقارب وأصحاب ومن يعرف الوكيل أو يعمل عنده من المديرين والمستشارين، فيحصل على تخفيض استثنائي، أو أنه من الموظفين بمرتبات تضمن حقوق البنك - من أرامكو أو الخطوط، أو أستاذ في الجامعة، ويصبح مؤهلا للتخفيض، أو يخرج بهدية. أما التشغيل والصيانة، فنظرا لما يضطر إليه ساكن الحي الجنوبي من مرور على أكوام المخلفات وسقوط في حفر ومستنقعات والتعرض لحوادث الارتطام بأشياء تبرز فجأة من الطريق ومن الجدران أو تسقط من السماء، فإن صيانة السيارة، واستبدال العجلات يكون عادة بمعدل أكبر وفاتورة أضخم، وعند بيعها تكون قد استُنفدت أوصالها وضاع الكثير من مفاصلها، وتدنى ثمنها بسبب ما تعرضت له من قسوة الطريق، وهكذا يكون الخاسر في كل خطوة. وساهر يأخذ من الفقير الذي ينتظر نهاية الشهر كي يدفع، رسوما ضعفين، فالغرامة هي جزاء مخالفته أنظمة المرور، أما المكوس فجزاء عوزه وفقره. وإذا مرض الفقير تقاذفته المستشفيات والمستوصفات وتنقل بين الصيدليات والمختبرات ويد كل من لا يعرف معنى الرحمة، حتى تجهز على ما تبقى له في جيبه، ثم تلفظه يموت في حضن زوجته أو على عتبة بيته بين أبنائه. والغني يعرف كيف يدخل أو من يدخله التخصصي أو العسكري أو مستشفى الحرس ويلقى هناك أحسن معاملة، وإن مات فعلى سرير أبيض وثير. والقبر واحد! نقلا عن الوطن السعودية