لا ألتمس عذراً لمن حرم بلادنا العربية من الانتقال التدريجي المتوازن في عملية التغيير الاجتماعي. فالمؤسسون سلّموا الأمانة لمن حولو الكيانات الموحدة او المستقلة في النصف الأول من القرن الماضي إلى دول مدنية. وتسلم الأمر مسؤولون أسهموا في وضع الأنظمة ولكنهم من شدة حرصهم تصوروا أن أحدا غيرهم لا يستطيع إدارة شؤون الدولة ومؤسساتها، فأدى ذلك إلى تغييب أجيال عن الإسهام في إدارة مرافق الدولة وفق متطلبات العصر وشروط المرحلة. وقد كان ذلك الحرص الشديد سببا كافيا لأن تقل فرص جيل أو جيلين في تبوء مناصب قيادية مؤثرة كانت ستساعد على تشييد جسور تربط الأمس باليوم باتجاه المستقبل. أمسك جيل التأسيس والجيل الذي خلفه بمقاليد الأمور يدير المؤسسات بما يألفه ويحسنه متسلحا بالريبة مما يجهل، ومتوجسا خيفة من الجديد الذي لايملك القدرة على الحكم عليه، فكان ديدنه التردد والخشية من المحاولة والخطأ لنصل اليوم إلى جيل رقمي منفصل إلى حد كبير عن سياقه الوطني والثقافي، وغريب على أرضه، يعيش حياة افتراضية ويتواصل مع عالم مفتوح بمحرماته الأخلاقية والسياسية والفكرية. جيل له متطلبات لم يتمكن المجتمع ومؤسسات الدولة التي ألفت جلباب الماضي من تحقيقها. ولما وجب فرض التغيير كان هناك تخبط بين تغيير منسجم مع الهوية، وآخر يحرق المراحل بقرارات متسرعة أفقدت جيلا كاملا توازنه ظنا أن تكثيف قنوات التغيير الجماهيرية سيؤدي إلى خلخلة الفكر التقليدي الذي اكتشفوا فجأة أنه غير مناسب، وقد لايخدم الاستقرار السياسي في تلك البلدان، فكانت عملية إلهاء غير مدروسة العواقب هي الحل السريع الذي خرج به مخططون غطوا في سبات عقودا من الزمان لتكون أولى محاولاتهم في التغيير إرباك النشء بين ما ظهر عليه مجتمعهم من محافظة، وما يبث لهم من جرعات مكثفة تخالف أبسط ما تربوا عليه من القيم الأخلاقية. البث الفضائي الذي أغرق الشباب في أتون الصراع النفسي الداخلي سرعان ما ردفته قوة جديدة جعلت من كل فرد قادرا على تحديد خياراته بنفسه، والإيغال في دهاليز المحرمات كيفما يشاء دون رقيب أو حسيب. لقد كانت حياة جديدة هيأها الإنترنت تدور فصولها في عرصات المنتديات الاجتماعية ويلتئم شملها بين الفتيان والفتيات الذين يتعاطونها بكل ما فيها حتى الثمالة، وهي مختلفة عن تلك التي أدلجناهم عليها من خلال التعليم أو قنواتنا الإعلامية الرسمية التي أصبح هذا الجيل يعتبرها "أنتيكا" تستحق المشاهدة السياحية لتروي لهم حال مجتمع لايعرفونه. وببساطة نفثت قنوات التغيير الفردية والجماعية في وعي ولاوعي هذا الجيل الرقمي حاجات ومستلزمات ورغبات تعجز المجتمعات عن تلبيتها فتعززت روح الازدواجية في النفوس وعزم الشباب على أن يسخروا طاقاتهم لإحداث تغييرات تنسجم مع توجهاتهم ولوكانت على جماجم الأجيال الأكبر سنا التي يعتبرونها سببا في إسقاط جيل كان يمكن أن يلعب دور الموازن في عملية التغيير المجتمعي. المتوسط العمري لسكان الدول العربية يتراوح بين 14 و25 سنة، والدراسات الاجتماعية تقول بأن المجتمعات التي يغلب عليها الشباب هي أكثر المجتمعات استعدادا وقابلية للعنف السياسي، ذلك أن الشباب يأتي بعد جيل استحوذ على الفرص ولم يترك لمن جاء بعده سوى البطالة وقلة الفرص ومستقبل غير مضمون. تلك الظروف تقود الشباب إلى اعتناق أفكار سياسية راديكالية وتعمق فجوة العداء مع السلطات الرسمية، والمغامرة غير محسوبة العواقب؛ إذ ليس هناك ما يخشى فقدانه. والآن وقد وقعت الفأس في الرأس في بلدان عربية، وتتوجس البقية خيفة من رياح التغيير العنيفة يمكن لنا أن نسأل ما إذا كانت الدول العربية قادرة على النزول لمستوى هذا الجيل وتلبية رغباته دون تسفيه أحلامه، ومدى رغبتها في استخدام نفس أدواته في التواصل معه لردم الفجوة نوعا ما، أم أن البعض ستأخذه العزة بالإثم فيفاقم الهوة ويعاظمها؟ نقلا عن الرياض