حكاية ''جوجل''.. بدأت عام 1996، حينما أنشأ طالبا دكتوراه يدرسان في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا (''لاري بييج'' و''سيرجي برن'') موقعا ضمن مشروع بحثي يركز على إيجاد محرك بحث مختلف عن بقية المحركات الأخرى. أسسا ''جوجل'' الذي استضافه موقع الجامعة. وشرع الطالبان يعملان من مرآب (كراج سيارة) منزل أحد الأصدقاء. تطور بهما الأمر، فاستقلا بموقعهما عام 1997، وتلقيا أول تمويل بمبلغ 100 ألف دولار من مستثمر جريء عام 1998. ثم ازداد حجم العمل الإداري للموقع عام 1999، وكاد يحول دون إكمال دراستهما للدكتوراه، فقررا بيع الموقع لأحد رجال الأعمال. عدت أتابع مجريات المنتدى من على الشاشة الضخمة في قاعة المشاركات.. تذكرت قصة ''فيسبوك''.. بدأ هذا الموقع بمبادرة من أحد طلاب جامعة هارفارد الأمريكية (مارك زوكربيرج), الذي كان يقيم في السكن الجامعي مع اثنين من زملائه (داستين موسكوفيتز وكريس هيوز). كان مارك المولع بالإنترنت يفكر في إنشاء موقع للتواصل بينه وبين زملائه في الجامعة لتبادل الأخبار والآراء والصور. انحصرت عضوية ''فيسبوك'' على طلاب جامعة هارفارد، ثم على طلاب جامعات مدينة بوسطن (مقر هارفرد)، ثم توسع الموقع ليشمل الطلاب الجامعيين، ثم طلاب الثانوية، وأضحى الآن متاحا للجميع. بين الحكايتين انبثقت من أعماق الذاكرة الحكاية التي روتها صديقتي.. بادر ''طارق'' بكل حماس مع أصحابه إلى افتتاح متجر في الرياض متخصص في بيع ''الحاسبات المحمولة'' عام 1994. كانوا يشترونها من أمريكا، ويبيعونها في الداخل. كانوا يقاومون صعوبات التأسيس، و''يطرقون'' الأبواب للدعم والتمويل ، إلا أن أحدا لم يسمعهم، فلا البنوك المحلية تصغي ، ولا أحد من رجال الأعمال يسمع. نجاح يترنح بين التعثر والفشل. بدأت الآمال تتضاءل مع تصاعد أرقام الخسائر، ظلوا يكابدون ويكابدون إلى أن اتخذوا ذات يوم قرارا بفض الشراكة وتصفية المحل. إنها قصة روتها صديقتي عن زوجها ''طارق'' الشاب السعودي الذي قرر يوما خوض غمار ''البزنس'' قبيل تخرجه في الجامعة. كنت أتذكر القصص وأنا مشاركة ضمن فعاليات المنتدى العالمي الأول لريادة الأعمال والاقتصاد المعرفي الذي نظمته جامعة الملك سعود أخيرا. حاولت أن أتذكر بعض المشروعات الواعدة, كيف بدأت، كيف نشأت، كيف استمر بعضها، وكيف آل البعض الآخر إلى الفشل. أفكر في ذلك، وإذ بالدكتور عبد الله بن عبد الرحمن العثمان مدير جامعة الملك سعود يعلن للحضور إنشاء صندوق التنمية والاستثمار المعرفي (تمكين) برأسمال يبلغ 160 مليون ريال لتمويل أفكار المبتكرين وتحويلها إلى مخرجات تضيف قيمة إلى الاقتصاد الوطني في صورة منتجات استهلاكية أو شركات ناشئة تسهم في توظيف الشباب والفتيات، ليكون الصندوق بذلك نواة لصندوق وطني في الاستثمار المعرفي يحول طلاب وطالبات الجامعة من طالبي عمل إلى صانعي عمل لهم ولغيرهم. نزل إعلان تأسيس ''تمكين''، كبشرى نزول المطر على أرض يباب. عدت وفتشت بين الحضور عن وجه صديقتي، لكن ليس من بين الوجوه من كان يشبهها. ''تمكين'' هذا الصندوق الوطني الفريد صندوق استثماري يقدم أموالا جريئة أو مغامرة أو مجازفةventure capital، لتمويل رواد الأعمال والشركات المبتدئة في مجالات غير تقليدية كتقنية المعلومات والاتصالات وغيرها، ويعتمد هذا النوع من الصناديق على امتلاك حصة في الشركة المبتدئة يبيعها للغير خلال ثلاث إلى خمس سنوات. لقد كان الدكتور العثمان ينادي منذ فترة طويلة بضرورة إنشاء صندوق لتنمية الاستثمار المعرفي. لكن البنوك والمؤسسات المالية لم تتحمس أو تستجب، فقرر أن يتخذ الخطوة بنفسه. وها هي ذا جامعة الملك سعود كعادتها سباقة لما مارست دور المستثمر الجريء المقدام من خلال إنشاء ''تمكين'' الذي يدعم مشروعات جديدة ذات مخاطر عالية. إن خطة التنمية التاسعة تضمنت مجموعة من آليات التنفيذ الرئيسة كان من بينها الآلية ال 16 التي تؤكد ''دعم مشاركة الشباب في النهضة التنموية للمملكة وتمكينهم من الإسهامات الفاعلة في تنمية المجتمع''. وسيكون صندوق ''تمكين'' إحدى الوسائل التي تمكن أمثال ''طارق'' من المساهمة في بناء الوطن. البنوك المحلية لا تصرف ريالا واحدا إلا على مشروعات مضمونة الربحية وذات مخاطر منخفضة. والمستثمر السعودي التقليدي ينزع إلى الاستثمار في مجالات مأمونة، فتجده يركز على تجارة التجزئة (وخاصة المرتبطة بالمأكولات!) والعقارات. ورغم أن ''هوامير العقار'' ينعتون العقار ب ''الابن البار'' ، إلا أن هذا الابن لا يخلو من عقوق وجحود تجاه الوطن. فمن وجهة نظري المتواضعة، إن بيع وشراء الأراضي والعمائر والمنازل لا يضيف أي قيمة للاقتصاد الوطني، ولا يستحدث أي فرص عمل للشباب تقضي على البطالة. على العكس من ذلك، نجد أن المستثمر المغامر المقدام يفتش عن الأفكار غير التقليدية، الأفكار المجنونة والإبداعية، يجول المعاهد والجامعات مفتشا عن فرص الإبداع. فهو يدرك أن حجم أرباحه يعادل مستوى المجازفة، علاقة طردية بين المتغيرين. لا يصدق البعض أن ''جوجل''، و''فيسبوك''، و''ياهوو''، و''تويتر'' و''ماي سبيس''، و''يوتيوب'' (موقع البث المرئي) ، و''ئي بيي'' (موقع المزاد الإلكتروني) وشقيقه ''بي بال'' (موقع المدفوعات الإلكترونية) كانت مواقع شخصية ظهرت بمبادرات شباب بيعت أو تحولت إلى شركات. فها هي ذا ''جوجل'' شركة يعمل فيها 24400 موظف، ذات إيرادات تزيد على 23 مليار دولار عام 2009. أما ''فيسبوك''، فقد تحول إلى شركة يملكها المؤسس نفسه ويعمل معه أكثر من ألفي موظف، محققين إيرادات تزيد على 800 مليون دولار حسب إحصائيات عام 2009. إذن نحن في هذا الوطن الغالي، نريد تقديم حلول غير تقليدية لمشكلة البطالة. لذلك، يجب على الصندوق، الذي أناطت جامعة الملك سعود بإدارته إلى شركة وادي الرياض للتقنية، أن يحتذي بصناديق التمويل الجريء التي دعمت الكثير من الشركات المبتدئة سواء جوجل أو غيرها، ومن ذلك: • توفير الأنظمة واللوائح التي تحدد مسؤوليات الصندوق ومهامه، وتضع له الأطر العامة لتحقيق الأهداف المنشودة. • تسهيل الإجراءات الإدارية، والابتعاد عن البيروقراطية التي تثبط من حماس الشباب، فالفكرة الجيدة إذا لم تنفذ في وقتها تذبل وتصبح قديمة. • التحلي بالحس التجاري الذي يساعد على تمييز الابتكارات ذات الجدوى الاقتصادية العالية (عائدات عالية خلال فترة وجيزة). • التنويع في تمويل أنشطة ريادة الأعمال بحيث لا يتم التركيز على تقنية المعلومات والاتصالات، بل يتم التركيز على كل أنشطة ريادة الأعمال المرتبطة بالاقتصاد المعرفي. خاطرة أخيرة كم من الأفكار وئدت قبل ''تمكين''، وكم منها سيرى النور من بعده. فهنيئا لتلك الأفكار التي ستهتدي بنورك يا ''تمكين''. نقلا عن الاقتصادية