آباؤنا كانوا ينظرون لنا أننا اتكاليون لم نزرع أو نحطب، أو نبني بيوتنا الطينية، لأن المدارس أفسدتنا، علمتنا النظافة المبالغ فيها، ونحن جيل الستينيات صرنا نكرر ذات النظرة لأبنائنا، بأنهم أجيال الأكلات السريعة، والميوعة والترف اللامحدود، مقابل رفض العمل الجاد والانخراط في بيئة الأداء والتكافؤ بين ساعات العمل بالوظيفة والإنتاجية، وهي صفات بنيت على مظاهر قصّات الشعر والسلاسل والخواتم التي يتحلى بها الشباب من الذكور، والسراويل الضيقة والانفلات الأخلاقي في المعاكسات، أي جيل «الفيس بوك» والكورة، غير المتسلّح بالثقافة والوعي ونبذ الاتكالية والعجز عن أداء الواجبات.. هذه الأحكام تعسفية ومبالغ فيها إذ اعتدنا التفكير أن أجيال الأسلاف أفضل منا ليس في المسائل الدينية والتقاليد والبطولات فحسب، وإنما بالتميز العقلي، وهذا غير صحيح إذا استثنينا الأنبياء، ولا نرى هذه النظرة تكتسب شرعيتها عند الشعوب المتحضرة، والتي تجد في مَن يبتكر ويطور امتداداً لآباء المكتشفين للعلوم، وعند المفاضلة فإن الأجيال الراهنة تكسب التميز عن سابقاتها.. في الوطن العربي سادت فكرة تعميم هذه الفوارق، لكن ما حدث في تونس ومصر من الاستجابة السريعة للتغيير، وتلبية مطالب جيل آخر مختلف بالعقلية والفكر، في فرض لون جديد من الحكم يرفض التعسف والإملاءات، ومبدأ القطيع والراعي، أثبت خطأ نظرتنا السائدة، لأن من شكّلوا دروعاً بشرية في حماية ممتلكات الوطن ومطاردة اللصوص، وإدارة حركة السير في غياب غريب لقوات الأمن، والتبرع بالدم، ليسوا شباباً سلبيين نعطيهم أحكامنا القاسية.. في جدة وفي يوم الطوفان الكبير، نقلت أجهزة الإعلام صوراً للشباب والشابات وهم يقومون بأدوار بطولية في مساعدة المحاصرين بالسيول، وهي استجابة تلقائية لم تأت بأوامر أو مطالبات من أجهزة أهلية، أو حكومية مما خلق ثقة أخرى بأبنائنا الذين قدموا واجبات وطنية وإنسانية، والأمر نفسه حدث في الرياض لنفس الواقعة وكذلك في مدن وقرى أخرى.. عندما نحرّر الشباب من عقدة الصور السلبية، ونفهم الزمن الذي يعيشون فيه، في تفاعلهم مع العالم كله بالوسائط التقنية الحديثة وندرك مدى الفاصل الزمني الذي حققته التكنولوجيا بين أفراد الأسرة الواحدة، ونعترف بأميتنا في مجاراتهم تحريك أزارير الحواسيب والهواتف النقالة، والتحولات التي حدثت، فإنه من غير المنطقي أن نأخذ الامتياز من خلال أحكام نطلقها على أنفسنا، وننسى كيف تدار عجلات المصانع وفحص عينات المختبرات، والتعاطي مع الإدارة التربوية والصناعية والإدارية، وكيف سدّ الشباب العجز في هذه الوظائف وغيرها، لندرك مدى القيم التي يعتنقها الشباب، وهي ليست سلبية اتكالية بأنهم فارغون ومجوّفون.. تحريك الشوارع العربية إلى ثورة على السائد، هو صدى لدوافع لم نقرأها بشكل صحيح، وهذا ليس خطأ هذا الجيل، وإنما عزلتنا التي فرضناها على أنفسنا بالتباعد عنهم، والصورة الأجمل نراها عند الساسة والرأي العام العالمي الذي بهرته الانفجارات التي قادها جيل كسر عناد السلطات ورفض الاستكانة أو الرعب من الملاحقة والسجون، وهي خطوات غيّرت الأفكار والمعالم.. نقلا عن الرياض