انعقدت، في جدة الأسبوع الماضي، حلقة جديدة في سلسلة الحوار الوطني تحت عنوان "القبلية والمناطقية والتصنيفات الفكرية وأثرها على الوحدة الوطنية".. وكما هو متوقع في كل حوار بين عقلاء باحثين عن الحكمة والحق، كانت هناك اجتهادات مختلفة وآراء متعددة وإن أجمعت على ضرورة صيانة الوحدة الوطنية وتخليص انتماءاتنا وتياراتنا الفكرية من كل ما يسيء إلى هذه "القيمة". وكما هو واضح بدا عنوان هذه الحلقة من الحوار الوطني عريضا تنضوي تحته قضايا مهمة، فيها من التفاصيل ما يجعل كل واحدة منها تستحق سلسلة من الحوارات لكي تتحدد ملامحها وتنضبط تعريفاتها وتدرس خريطتها للوقوف على النقاط المحورية فيها والتفريق بين الرئيسي منها وبين الهامشي .. والقضية الكبرى، الوحدة الوطنية، لا يختلف اثنان على قيمتها وأهميتها وتمسك الجميع بها، ولكن الحوار والنقاش وتباين الاجتهادات تدور حول أدوات ووسائل تمتينها وأسباب تقويتها ودفع مهددات رسوخها.. ولهذا تكثر الاجتهادات حتى لتبدو في بعض الأحيان مختلفة ومتعارضة. ومن نقاط الاختلاف النظرة إلى القبيلة والقبلية، ففي الوقت الذي نجد من يحملها مسؤولية ضعف الانسجام بين مكونات الشعب وتغذية العنصرية والتهديد الحقيقي لمعنى الانتماء للوطن، نجد آخرين يرون فيها مستودع الأخلاق ومنبع الخير الذي يحفظ سلم القيم.. والحقيقة أن القبيلة، إذا وضعت في إطارها الإيجابي، فإنها تصون الأخلاق وتشكل رصيداً إيجابياً في ذاكرة المنتسبين إليها لأنها تحول بينهم وبين الأفعال المشينة التي تلحق العار بأهلهم أو انتمائهم. فالقبيلة في المجتمعات النقية هي بمثابة الوعاء للكثير من الفضائل والأعراف التي تحفظ القيم وتصونها من التحلل والاندثار، وبالتالي يمكن توظيفها بصورة نافعة في مسيرة انتقال المجتمع من مرحلة الولاء للقبيلة إلى الانتماء للوطن.. لكن القبلية قد تتحول إلى نزعة "فوقية" إذا كانت الأنظمة والقوانين تجعها "مؤهلاً" يعطي المنتمين إليها ما لا يحق لغيرهم.. ومن هنا تصبح الأنظمة والتشريعات سبباً في الإساءة إلى مفهوم القبيلة ولمعناها الإيجابي ووسيلة تغذي نعرتها السلبية. "القبيلي" هو في النهاية إنسان يولد صفحة بيضاء (على الفطرة) وينشأ في بيئة تشكل سلوكه وتبني معارفه فإذا وجد نفسه في محيط يتفهم الاختلاف ويستوعب دواعيه ويحترم طبيعته وأنه علامة غنى وثراء وليس مؤشرا على هشاشة أو نقص فسيكبر وقد استقرت هذه المعاني والقيم في فكره وتعاظم تأثيرها في مشاعره. هذا الإنسان يدخل المحاضن التربوية والمؤسسات التعليمية فيجد فيها غير "القبليين" فيزداد قناعة بأن الوطن للجميع وأن الكفاءة هي الوسيلة المشروعة للتقدم في سلم الحياة، فإذا خرج إلى الحياة العملية ووجد نفسه في مواقع ليس فيها غير أبناء القبائل، حينها لا بد أن يشعر أن القبيلة "ميزة" وأنها أعطته أفضلية على من كان يراهم متقدمين عليه تحصيلاً واجتهاداً.. هذا الإنسان لا نستطيع أن نلومه إذا بدرت منه تصرفات تشعر الآخرين أنه يتعالى عليهم ويترفع عن التصاهر معهم.. ويتضاعف الإحساس ب"الخلل" حين نتذكر أن المجتمع يردد صباح مساء "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" وأنه "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى"، فإذا هبط أفراده إلى أرض الواقع تراجعت هذه المعاني في سلوكهم وتناقصت في نظرتهم للآخرين لصالح الانتماء القبلي أو الجهوي أو الطبقي.. وأهل هذا الانتماء يمكن أن يعذروا فهو الذي منحهم الأفضلية التي لم تؤهلهم لها قدراتهم الذاتية أو اجتهاداتهم العملية.. وإزالة هذه "التشوهات" لا يكون إلا بالقانون وتطبيقاته فهو الذي يساوي بين أبناء الوطن في الحقوق والواجبات ويردع أي انحرافات تسيء إلى مفهوم المواطنة. الحوار مهم وضروري إذا تجاوز الحديث النظري وانعكست نتائجه وثمراته على أرض الواقع ووضع النقاط على الحروف، بحيث إذا نزل الناس إلى واقع الحياة وميدان الحقوق والواجبات وجدوا الأنظمة والقوانين تطبيقاتها تذكر الإنسان بأنه فرد في المجتمع وأن تقدمه أو تأخره في سلم المصالح والمنافع والمكاسب مرده إلى قدراته ومواهبه واجتهاده لا إلى الانتماء العرقي أو الجهوي. أخشى أن تظل أحاديثنا وحواراتنا عن فوائد التعددية وإثرائها للمجموع وتأثيرها الإيجابي على ثقافة المواطنة وقيم الانتماء إلى الوطن نوعاً من "التجميل" والتناول الذي لا يغوص في أعماق المشكلة ولا يقترب من جذورها. لا أحد متفائلاً يقول إن الحوار الوطني الذي يجري غير مفيد لكن من الموضوعية القول إن الناس كانت تعلق عليه من الآمال والطموحات ما لم يبلغه بعد.. نعم الحوار مفيد حتى وإن كان بهدف تثقيف الناس وتدريبهم على سماع ما لا يتفق مع آرائهم أو الإصغاء إلى ما يغضبهم دون أن يكون لهم حق الاعتداء على قائله.. كل هذا مفيد لكن يظل "مقدمة" تحتاج إلى نتائج. وهذه النتائج ليست من مسؤوليات المتحاورين وحدهم بل هي من صميم مسؤوليات الدولة بكل سلطاتها التشريعية والقضائية والتنفيذية.. فهذه السلطات هي التي تقول للمظاهر الاجتماعية المنحرفة "مكانك" وهي التي تجبر الناس على الالتزام بها، وإذا لم تقم بهذا الدور فإن أي حوارات مصيرها في أحسن أحوالها أن تكون عناوين نظرية لا تمس حياة الناس. نقلا عن الوطن السعودية