دَرَجَ الشاعر العماني سيف الرحبي منذ سنوات، على الكتابة المفتوحة والنص المتجول بين النصوص، نصوصه هو ونصوص غيره، متخذاً من عباراتهم وآرائهم علامات تضيء تضاريس نصه. ففي هذه الكتابات نجد البيت الشعري القديم، والحكمة البوذية، واللمحة اليابانية التي تختصر المراد بإمثولة مختزلة. ونجد أيضاً المقطع الروائي المُعبّر بسطر أو سطرين أو أقل، فضلاً عن الرأي الفكري لمفكر ما والشذرة الفلسفية الرؤيوية لفيلسوف ما... وهذه كلها تتجمع في نصوص يستخلصها عبر أسفاره ورحلاته المتواترة حول العالم، ناقلاً لنا عبر خطواته وهي تجوب الأماكن البعيدة والمحطات الغريبة، والمسافات الكثيرة، أجواء تلك العوالم الخفية بحسه وولعه بالصورة التي تعتمد على العين والحس والشعور والخيال المستقصي الذي لا ينقص سيف في كل تلك التنقلات والرحلات التي تحط فيها قدماه وهو يعبر تلك المدن والمحطات والتخوم البعيدة. أما جديده ضمن هذه التآليف التي عرّف بها سيف الرحبي في الفترة المتأخرة، فهو كتاب «سناجب الشرق الأقصى - مقاهي باريس» عن دار الانتشار العربي في بيروت هذا العام. في الكتاب نعثر على اللوحة الفنية التي يرسمها سيف بعينيه المدرّبتين جيداً على استكشاف خفايا هذا البعد، في سِفْره إلى الشرق الأقصى، قرب الفيلة والنمور والقرود والسناجب، عالم يطلّ على المحيط، مريح وفيه استرخاء وبطء وتأمل، صوفي وبوذي ونيرفانا تُصعّد باتجاه الابتعاد قليلاً عن تفاصيل التراجيديا العربية والأسى المتصاعد في بعض مدنها وزواياها ودروبها، وصولاً حتى عواصمها التاريخية والقديمة، حيث أبيد الجمال الأولي، في المدن الحالمة وما يحيط بها من ضواح وقرى، تنام وتصحو في حضن الماء والشجر والسحاب، حتى غدت الآن طعاماً للصواريخ والقنابل والمدافع التي لا تصمت ليل نهار، عالم ينهار هو الذي دفع بسيف الرحبي لكي يبتعد باتجاه الشرق الأقصى. ولكن وعلى رغم هذا السفر المتواصل في الأصقاع البعيدة من أجل البحث عن قسط من الهدوء ومسافة آمنة غير معرضة للخطر والتهديد، تبقى مشاعره وحواسه وهواجسه مستيقظة، غير مستسلمة للدعة والراحة، فهناك في تلك المدن المكلومة، ثمة أطفال جرحى ومشردون، ثمة نساء ورجال وشيوخ مهاجرون من بلدهم يبحثون عن الخبز، يتناهشهم الجوع وسط البراميل المتفجّرة الملقاة عليهم، ثمة قهر ودم وإذلال في المدن السورية، على سبيل المثال، تؤرق بال الشاعر وتجعله يفكر وهو في البعيد بالأرض العربية الجريحة، الأرض المدكوكة من قبل الميليشيات المذهبية والإرهابيين والحكام الدمويين الذين من أجل بقاء الكرسي لهم مستعدون لأبادة بلد كامل. تداعيات كثيرة تأخذه إلى الماضي، يستدعي من خلالها الجنة السورية، مستذكراً الرخاء والأصدقاء، مسترداً أيام السيران في الغوطة وإقامته في دمشق هناك في مطلع الثمانينات، حيث النهر والأشجار المثمرة والطيبة السورية المدعومة بالطعام الشامي اللذيذ. لكنه سرعان ما يعي الحاضر، فيعود لمتابعة المشهد الآسيوي إلى أقصاه، مشهد السناجب وهي تتحرى الثمار في الأشجار، صاعدة نازلة، إنها سناجب تشي بالمرح والخفّة والدلال، حيث كل شيء في الأرض الآسيوية يدفعك إلى اجتراح التأملات والغوص في جهد الطبيعة المبذول لكي يكون بين أيدي البشر، هؤلاء الذين لطالما خانوا الأمانة بإبادة الطبيعة لغرض توسيع الكون الإسمنتي، وتقبيح الجمال وتمتين العوالم الآلية الشرهة. إذ لا ينسى سيف الرحبي في تجواله التأمليّ هذا أن يمر بالمعابد البوذية، والمحطات ليتأمل المسافرين والمارة والجالسين في المقاهي والمقاصف، يراقب كل نأمة ويقارن حياة الأوروبي الذي يتمتع بآخر ما تبقى له من وقت في هذه الحياة، وحياة العربي الآيلة إلى النكوص تجاه المهاوي والظلام العميق الذي يحيط بالمعمورة العربية، يجلس أمام البحيرات والشواطئ ليرى ويراقب ويستشف ما تنطوي عليه هذه المدن الجميلة، النائمة في فراش وديع من النبات والأوراق والثمار والأشجار الغريبة، يراقب الفتيان الذين يصطادون الأسماك ويلاعبون الحيوانات غير الأليفة، في عالم أليف وشفّاف ورائق كقلوب سكان هذه الأراضي المفعمة بالخضرة، يراقب البنغالي الذي يذرع هذه الأرض وهو يتحدث عن بلده المتاخمة التي تجود بأمطار غزيرة وببشر كثيرين، بشر في كل مكان تراهم، وفق قوله، ولكن الشح هو الماثل.
مقاهي باريس باريس هي باريس التي لا تتغير، بل تزداد جمالاً كلما أوغلت في السنين، وتقدمت صوب دوائر الدهر، تبقى الأثيرة من بين كل المدن للشعراء والكتاب والفنانين، مدينة الرومانسية هذه يصل إليها الكاتب ليلاً، يفطر كما يفطر الفرنسيون كرواسون وقهوة، ثم لا بد من مرأى نهر السين فهو يطالعك أينما ذهبت، على ضفته يجلس الكاتب وحيداً، ليتابع حركة الزمن عبر نهر هراقليطس، يتابع حركة دوريّ شفاف يحوم حول الضفة، إنه الدوري الذي يراه المرء في كل مكان خفيفاً، باهراً وزاهداً في الطعام، وإذا كان لا بد من نهر السين فالكاتب لديه أصدقاء وذكريات غابرة في أزقة ومقاهي السان ميشيل والسان جرمان دو باريه والأوديون، المقاهي التي يحلو له الجلوس فيها مع من تبقّى من الصحاب القدامى، مسترجعاً معهم سيراً عابرة وذكريات مرّت، وصداقات كانت هنا وذهبت وطواها الزمن كعادته مع الكائنات الحية، لكن الشاعر لن يدعها منسية، فسرعان ما يعود إليها، لينبشها ويستحضرها، مستنطقاً نواحي الذكرى ومستجوباً بأسئلته أغوار الماضي. يذهب إلى حدائق لوكسمبورغ، يتجوّل بين بشر مرحين وكئيبين، مثل أي حياة أخرى، يستمتع بأمطار خفيفة، تنزل عليه كالنعمة هو القادم من الصحارى والربع الخالي والجبال الساخنة والجحيمية، متحف الفنون لا يبعد عنه سوى خطوات يذهب إليه، في ذهابه يتوقف أمام «البوزار» الأكاديمية الفنية التي تخرّج منها أشهر رسامي العالم، يمرّ بنهر بالسين حتماً فيرى بواخر النهر السياحية مليئة بأطفال وهم يضحكون ويصخبون، يلوّحون للعابرين والمتفرّجين، هنا ستعيده هذه التلويحة إلى أطفال سوريا، أطفال تلك البلاد المنكوبة التي لا يعرف عنهم هؤلاء الأطفال شيئاً: «لا يعرفون عن التشريد والقتل وأنواع الاستباحة والاغتصاب كافة» بالقرب من نهر السين هناك جسر الفنون، يمشي إليه ليتحرّى الموقع، فيجد جسر الفنون الذي علّقت عليه الأقفال، أقفال المحبّين والعشاق، أقفال معلّقة بشتى الأشكال والألوان والأنواع، وهي مقفولة على أسرار الحب والعشق، عبر طريقة تسعى إلى تأبيد هذا الحب، العشاق يتهادون بالقرب من أقفالهم التي تثقل الجسر بمرآها، وتبدو للناظر مثل لوحة فنية عظيمة كبيرة وواسعة، حتى تكاد أن تحجب بعض جوانب النهر من الرؤية، هذا المشهد المترع بالأقفال من شتّى الأحجام سيُذكّر الكاتب بعبارة أفلاطون «الحب هو تجلّي البداية الخالدة في الكائن الفاني». في المقهى حيث الذكريات تفد بلا منازع، يتذكّر الكاتب المصري ألبير قصيري، الكاتب الذي عشق الكسل وعاش طيلة حياته في فندق، يتذكّره وهو يفضّل الجلوس في المقاهي الأنيقة والفارهة، يتذكّره عابراً الحي اللاتيني باتجاه حدائق اللوكسمبورغ، لا يتكلم كثيراً، أنه يومئ ويشير في أحاديثه، وكان يقول لمحبّيه أي ألبير قصيري «إنني لست وحيداً ما دمت مع ألبير قصيري». حين يعود الكاتب إلى غرفته في الفندق يسمع صوت مذيع الأخبار من الغرفة المجاورة، وهو يتحدّث عن مجازر بلدة القصير السورية، ما يجعل هذه التسمية تعيده إلى ألبير قصيري مباشرة «هل كان ألبير قصيري من أصول سورية؟» مثل أصول الكثير من الشوام الذين غادروا لبنانوسوريا في مطلع القرن العشرين وما قبله ليؤسسوا في مصر دُور الصحافة والطباعة والفن هناك. أما الجزء الأكبر من الكتاب الذي لم أتحدث عنه فهو الشعر الذي فاح في الكتاب كنكهة، طعّمت هذه الكتابة بالعديد من القصائد الشعرية، وهي تأتي فيه كمثال يدعم القول ويقوّيه، أو يُسوّغه للقارئ كرؤيا فنية وجمالية تطلّ متشابكة ومتواشجة في خيط فنّي لا يفصل المتن عن الهامش، وبالعكس لا يفصل الهامش عن المتن الشعري، إنّ هذا التلوين يأتي كإشراقة أو كبارقة رؤيوية تواصل تطبيع العمل هذا، والسؤال الذي يبرز هنا، هل هذه الأشعار ستظل جزءاً من الكتاب وتطوى كمادة نثرية؟ أم أنها ستصفّى وتستخرج في ما بعد من الكتاب لتكون وحدها عملاً فنياً شعرياً مستقلاً، وهي كثرت في كتب الرحبي الأخيرة، وإذا كان الأمر كذلك، فإن البنيان العام للكتاب سيضعف ويختلّ معماره، أما إذا بقي هكذا دون الالتفات إليه فسيضيع لا محالة، كجهد جمالي تائه وسط هذه السطور من النسيج الكتابي، إنه في النهاية سؤال أوجهه إلى شاعر أحبّ نصوصه الشعرية. * هاشم شفيق .