كتاب 'الصَّارم المسلول' لمصنفه ابن تيمية، يعطي تصوراً بأن فقيهاً مثله جعل حب النَّبي محمد مربوطاً بالعنف والإكراه لا نابعاً من القلب والوجدان. جرت في الأيام القليلة الماضية تظاهرات وحوادث عنف في أكثر مِن بلد مِن بلاد المسلمين، إثر الفلم المسيء للنبي محمد، والذي اُخرج بطريقة على ما تبدو هادفة لإثارة المسلمين، أو بالأحرى لمعرفة مدى غضبهم، أو ردود أفعالهم، ويمكن أن يُضاف إلى الأهداف المتواخاة من الفلم، الهابط في كل المقاييس، تثوير الشَّارع على قضية خارج مطالب المواطن واحتياجاته، أو لستر سياسة ما تنفذ الآن في المنطقة. لكن الذي ظهر هو أن هذا الشَّارع سهل الإثارة وبالغ العاطفة خارج المعقول، فحصلت حوادث عنف إلى درجة قُتل فيها السفير الأمريكي بليبيا! وحرقت قنصليات وسفارات، وكان المشهد في غاية الإساءة للنَّبي أكثر مِن الفلم نفسه. فالأكثر مِن هذا أن معظم هؤلاء المتظاهرين، الذي وجد الإسلام السياسي فيهم آلة يحركها كيف ما يشاء بفتاوى وهتافات، لم يشاهدوا الفلم، وشأنهم شأن الذي راح ينفذ (حكم الله) في الروائي نجيب محفوظ، وهو لا يدري لماذا ينفذ فتوى القتل به! لعلَّ كتاب "الصَّارم المسلول على شاتم الرَّسول" لمصنفه شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، الذي توفى السنة 728 هجرية، يعطي تصوراً بأن فقيه عنيف مثل ابن تيمية تراه جعل حب النَّبي محمد وإجلاله واحترامه مربوطاً بالعنف والإكراه، وذلك لكثرة العقوبات الصارمة في مَن يُشهد عليه بأنه اساءة للنبي، فهذا المعاقب بالقتل أو الجلد وذووه سيضمرون ما يخالف الحب للنَّبي، وحتى التوبة التي تُعلن تجدها تؤخذ بالإكراه، وهنا وضع ابن تيمية حب النبي واحترامه في دائرة الإجبار، لتصير قانوناً سلطوياً لا عاطفة سخية تشع من القلب والضمير والوجدان. نقرأ في "الصارم المسلول على شاتم الرسول" العقوبات الآتية: القتل باجماع أهل العلم، سواء كان الساب مسلماً أم ذمياً. كذلك يُقتل مَن ينقص مِن الرسول بكلمة أو تصرف ما. واعتبار منتقصه كافراً، وبالتالي يُقتل الكافر بالردة. جاء في نص العقوبة: "السَّاب إن كان مسلماً فإنه يُكفر ويُقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم ... وإن كان ذمياً فإنه يُقتل أيضاً في مذهب مالك وأهل المدينة... وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث". فإذا كان المسلم يُكفر بسب النَّبي فيُقتل كمرتد، فإن الذمي أو المعاهد ينتقص عهده ويقتل لأن لا عهد له. يأتي ابن تيمة بأدلة، حسب تأويل الفقهاء للنصوص القرآنية، تؤكد قتل مَن أساء أو انتقص أو سب النبي، ثم يأتي بالأدلة من السًّنة النبوية، فالاستدلال بالاجتماع، وهي مصادر الفقه الإسلامي بشكل عام. يكون الحكم بالقتل وتنفيذه بلا استتابة، أما في حالة الذمي فيرى البعض بالاستتابة والغرض، على ما يبدو، كي يكون مسلماً وإلا قُتل. ثم يطور ابن تيمية بحثه في هذا الكتاب ويأتي بحكم السَّاب الله، وفي حكم السّاب للأنبياء الآخرين، والسَّاب لأزواج النبي، وحكم السَّاب للصحابة. فاعتبر مسبة الله بمنزلة مسبة النبي، والحكم هو القتل بلا ريب، فساب الله كافر مرتد بل أسوأ من الكافر، على حد عبارة ابن تيمية، والعقوبة بطبيعة الحال تنفذ بقطع العُنق. بل نًقل عن ابن حنبل: "من ذكر شيئاً يُعرض بذكر الرب فعليه القتل، مسلماً كان أو كافراً". كذلك حكم ساب الأنبياء، في حالة تشخيص النبي بالاسم، هو خروج من الإيمان، والخروج من الإيمان يعني الكفر وبالتالي القتل هو الحكم. وفي حالة أن الساب ليس من المعتقدين بالنبي الذي سبه فهنا تجوز استتابته، وإلا قُتل. أما حكم الذي يسب زوجة من زوجات النبي، وعلى وجه الخصوص السيدة عائشة فيُعد كافراً، لأن الله برأها بآية من آيات القران. ويعني الكفر الردة ومن ثم يُقتل الكافر بعد إسلامه. كذلك الذي يسب فاطمة الزهراء يُقتل بالحكم نسفه. أما عقوبة الذي يسب الصاحبة فتبدو أخف بكثير، منها أن يُضرب ضرباً نكالاً، وحكم آخر لدى بعض الفقهاء، حسب ما نقل ابن تيمية، أن شاتم أو ساب الصحابة عقوبته السجن بعد العقاب بالضرب. ليس هذا هو الكتاب الوحيد الذي يجعل حب النبي واحترامه بالإكراه والتخويف بل سبقه إلى ذلك كتاب "الشِّفا في حقوق المصطفى" للقاضي عياض، الذي عاش في القرن السادس الهجري، وفيه عشرات العقوبات بالإعدام للسب أو التنقيص أو الإشارة بالعيوب. إن مثل هذين الكتابين لا يعكسان ما جاء في القرآن الكريم من التعالي على اللغو في أكثر من آية، منها: "لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ" (البقرة: 225). الحقيقة ليس للناس، من مختلف الأديان والمذاهب، عداوة مع النبي، إنما العداوة قد تكون مع الذين يضعون أنفسهم ممثلين للنبي، ويتصرفون مع الآخرين خارج نطاق المعقول، فقد يأتي الرد في ساعة الغضب بالسب، فوجود الإسلام السياسي مهيمناً هو وجه من وجوه الإساءة إلى المقدسات، لأن رصيد هذا الإسلام هو الله والنبي والكتاب، ففي هذه الحالة وضعت هذه المقدسات مقابل حاجات الناس وآلامهم من السلطات التي يُهيمن عليها باسم الله والنبي. بشكل عام، إن فرض المحبة والاحترام بالإكراه والعقوبة يخرجهما من القلوب إلى الألسن، وهذا أضعف الإيمان.