يتعامل القادة مع مرؤوسين مختلفي المشارب الفكرية والاتجاهات الثقافية والنزعات العرقية، وهذا في حد ذاته تحدٍ صارخ يتغلغل في البيئة الوظيفية ليمثل نباتات طفيلية تتكاثر حول تلك الفجوات لتزيد من التباعد الفكري، وتزعزع أركان العمل المؤسسي وتضعف الإنتاجية فتنعدم الروح التنافسية بين المرؤوسين. ترى ما السبيل لانعتاق القائد من هذه الأزمة المقيتة القاتلة للبيئة المثالية في العمل؟ إنَ السبيل الأمثل يكمن في اتفاق القائد مع مرؤوسيه على تحديد القيم التنظيمية، وهي مجموعة من المعتقدات و المبادئ والأحكام و المعايير التي تضبط السلوك الإداري وتحدد ما تفعله وما لا تفعله؛ لذا على القائد أن يجعل القيم بوتقة ينصهر فيها جميع منسوبي المنظمة لتذيب كافة رتوش التباين والصراعات داخل النظام الإداري، وتخلق في ذواتهم الاتساق والإتلاف لكي تتوحد كافة الأطياف المتشعبة بأبعادها الفكرية و الثقافية، وتتفق سوياً نحو بناء الوثيقة الاستراتيجية التي من أهم ركائزها (القيم) الهادفة لتطوير المنظمة، وتحقيق أهدافها، وهي في الوقت ذاته المرجعية للقرارات والأنظمة واللوائح وحل المعضلات وتحديد الكفاءات فهي الدستور الذي يضبط العملية الإدارية وبدونها تعيش المنظمة عشوائية مقيتة، وقد تنبه لذلك بيتر دراكر عندما طُلِب منه نصيحة جامعة مانعة حول تحقيق التميز للمنظمة فقال عليك بتحديد منظومة القيم وما ذلك إلا ليقينه بأن القيم تتناول الجانب السلوكي للفرد، وهي في حد ذاتها تعزز جانب الثقة في قائدهم والانتماء لمنظمتهم؛ لذا لا بد من توافق قيم الموظف مع قيم المنظمة حتى يشعر الموظف بتحقيق ذاته واعتباريته، ومن هنا يحدث الولاء وترتقي الإنتاجية، و يتحقق الابداع الفردي والتميز المؤسسي وبدون ذلك التوافق بينهما تسير الأمور باتجاه عكسي فيؤثر ذلك سلباً على الإنتاجية ، فيرى صفوان السقاف أحد منظري علم القيادة في العصر الحديث أن "القيم بمثابة (الميثاق الأخلاقي) لأي منظمة، وبقواعدها يهتدي الجميع لتحقيق الأهداف واتخاذ القرارات وإنشاء النظم واللوائح فهي الرابط الحقيقي بين أفراد المنظمة وبدونها تعمل المنظمة بدون قيم بدون محددات الروابط والعلاقات وبدون أواصر مشتركة ." إن تعزيز القيم في المنظمة تحتاج الى ثباتٍ وإيمانٍ صادق من القائد مهما تصادمت مع بيئة العمل الداخلية أو البيئة الخارجية ممثلة بالمجتمع، فعلى سبيل المثال جاك ويلش الملقب بأسطورة الإدارة وبمدير القرن أولى القيم التنظيمية كامل الرعاية والاهتمام فكان يؤمن بأن الصراحة قيمة إيجابية ترقى بالعمل الإداري من حيث الشفافية في تبادل الأفكار والسرعة في اتخاذ القرارات و تقليل النفقات التي لا حاجة لها ' مكث زهاء العشرين عاما في تعزيز تلك القيمة ،ولكنه فقد الكثير من الأصدقاء بسبب قيمة الصراحة التي كافح من أجل تعزيزها حيث جعلت منه إنساناً قاسي القلب حتى حذره الكثير منها ولكنها في المقابل كانت سبباً وراء إنجازاته الخلاقة؛ لأنَ الصراحة أظهرت العديد من الآراء البناءة، وحفَزت الجميع على بذل قصارى جهدهم في العمل، ولا يقف عند هذا الحد بل ضَمنها داخل سياق منظومي منسجمة مع الرسالة والأهداف؛ لتسهم جميعها نحو تحقيق التميز النوعي في المنتج ورضا العميل ، فالقيم ليست شعارات تشهر في الممرات أو تعلق على الحائط للتباهي بها' بل هي ممارسة وسلوك ينبع بإخلاص تام والتزام صادق من القائد، فعلى سبيل المثال رئيس الجامعة عندما يضع الشفافية قيمة من قيم الجامعة لابد أن يمارسها في قراراته و أنظمته وفي تعامله مع منسوبي الجامعة ويشجع كافة الهيئة الإدارية والأكاديمية على ممارسة هذه القيمة فلا مواربة ولا ضبابية في كافة القرارات أو التعينات أو الإجراءات الإدارية وقس على ذلك قيمة الابتكار عليه أن يحفز أعضاء هيئة التدريس و الطلاب على الابتكار ويشجع عليه و يغدق الحوافز المعنوية والمالية على هواته و أربابه دون هوادة فعندما تُهَمش القيم يعيش منسوبو الجامعات في حالة انفصام عقلي جراء الازدواجية العارمة بين القيم التي تعلنها قيادات تلك الجامعات وبين القرارات و الأنظمة و اللوائح التي لا تمت لتلك القيم بصلة لا من قريب ولا من بعيد وقد أكد كل من مايكل أوكونور وكينيث بلانكارد على أهمية تعزيز المنظومة القيمية لتكون معياراً ومرجعاً لكافة اللوائح والأنظمة؛ لتحقق شعور الفخر بالانتماء للمنظمة. ومن هنا نخلص إلى أنه يجب على القائد أن يضع في اعتباره أن الازدواجية بين قراراته و سلوكياته و القيم الأساسية التي ينادي بها تعد وصمة عار لا ينساها المرؤوسون له والتاريخ شاهد عيان على الكثير من الشركات التي لحقتها الفضائح وهي كثيرة مثل شركة كامبريدج أناليتيكا وشركة فولكس فاجن وشركة ابل وشركة تسلا وشركة ايكيا. وعندما تدقق في الفضائح تجدها مالية، أو صناعية، أو تسريب معلومات خاصة بالعملاء، أو تحايل على العميل لاستنزافه ماديا فهذه الشركات ساءت سمعتها واهتزت ثقتها لدى شعوب العالم، والسبب يعزى في ذلك إلى غياب تعزيز المنظومة القيمية في عقول منسوبي تلك المنظمات ووجدانهم فأصبح السلوك الإداري غير منضبط بمنظومة من القيم؛ فنجم عن ذلك جريان طوفان الفساد الهادر بين منسوبيها بصورة مفزعة. ختاماً: إن القيادة بالقيم من الأساليب القيادية التي تواكب متطلبات القرن الحادي والعشرين؛ لذا على القائد أن يكون حاذقاً في انتقاء القيم التنظيمية من مصادرها كالقيم الدينية وقيم المجتمع وخصائص المرؤوسين، وما هو متناسق مع الوثيقة الاستراتيجية من رؤية ورسالة وأهداف، فإن كانت منظمتُه غير ربحية كالمؤسسات الأكاديمية ينتقي على سبيل المثال قيمة الإتقان وهي تمثل القيم الدينية، و العدالة وهي من القيم الاجتماعية والمبادرة و الابتكار، وهما من القيم الأكاديمية التي تناسب تطلعات المؤسسة الأكاديمية، وإن كانت منظمة ربحية فالقائد ينتقي مع مرؤوسيه ما يتناسب مع رؤيتها وأهدافها مثل جودة المنتج، رضا العميل، المنافسة ، الإنجاز. إن الإشكالية لا تكمن في انتقاء القيم ولكن في الآلية التي يُلِهمُ بها القائدُ مرؤوسيه لتكون تلك القيم جزء من فكرهم وجدانهم ثم تنتقل بعد ذلك الى طور التوظيف في كافة الإجراءات الإدارية لتكون مرجعية لكل سلوك عام أوخاص للمنظمة ساعتها تحقق المنظمة المثالية في الأداء والتميز في الإنتاجية. بقلم/ الدكتور فيصل بن عبدالله السويدي @ALSUIADI أكاديمي متخصص في القيادة والجودة والتميز المؤسسي