لئن تمَّ القبض عليك متلبساً بجريمة حيازة «العقل» فإن العقوبة التي تنتظرك من شأنِ قسوتها أن تجعل منك جسداً بلا رأس، وستعيش ما فضُلَ لك من «حياة» موشوماً ب(صاحب فتنة)، وحينذاك سيتوجّس منكَ الأقربون خِيفةَ، ومنهم مَن لن يستنكف -ديانةً وحميّةً- في أن يُسارع في استصدار صكٍّ للبراءةِ منك! وفي الغالب أنْ ستنسى إثر ذلك أنّك كنتَ في يومٍ من الأيام تحملُ اسماً أو تنتسِب إلى «عائلة»! هذا جزاءُ مَن تورّط بامتلاك «العقل» وسعى حثيثاً -أو بطيئاً- في سبيل استثمارِ شيءٍ قليلٍ منه! وإذن.. فأيُّ منفعةٍ ل«عقلٍ» يوردك المهالك وبئس المصير، في حين ظفر الذين ليس لهم أدنى مسكةٍ من «عقلٍ» ظفروا بأن يعيشوا حياتهم بالطول والعرض وَفقَ ما أرادوا، أولئك هم الذين أدركوا كثرة منافع «الجهل» فما كان منهم إلا أن لزموه.. ألم يقُل أحدهم وقد بَرم من جناية عقله عليه: فأصبحت في الحمقى أميراً مؤمّراً وما أحدٌ في الناس يمكنه عزلي وصيّر لي حمقي بغالاً وغِلْمةً وكنتُ زمان العقل ممتطياً رجلي ليس أحدٌ منكم بقادرٍ على أن يتذكّر ولو واحداً -في التاريخ كلّه- انتهى به جهله/ حمقه إلى القبر، فيما ستنبئكم المقابر خبراً يقيناً عن أن كثيراً من قاطنيها إنما توافدوا عليها سِراعاً بسببٍ من حصائد «عقولهم». أنتَ ب«عقلِكَ» ميّتٌ، ذلك أنك تفتقر ل«الجهل» الذي فيه حياةٌ لأولي الرؤوس الفارغة! يوماً بعد آخر تتوكّد خسارة: «العقل» إذ باتت مكانته تُسجّل تراجعاً مهولاً أمام طغيان: (اللاعقل) ما يعني أن: «الجهلَ» هو المهيمن إذ بسط سلطانه على نحوٍ ألفينا معه: «العقلاء» يقبعون في المؤخرة من كل شيء، بينما: «جاهلٌ» يمكنه أن يتحكم في مصير أمة، ولبئس مستقبلٍ يُصنعُ على أعين: «الحمقى». إذا كان الزمان زمانَ حُمقٍ فإن العقلَ حرمان وشومُ فكن حَمِقاً مع الحمقى فإني أرى الدنيا بدولتهم تدومُ المعتوه -ما غيره- ذلك الذي ورث الجهل كابراً عن كابر كلّما رأى: «عاقلاً» رمقه بإحدى مقلتيه وأضمر ضحكة -مكتومة- منكرةً تشبه ضحكات مارد يتأهب لاقتناص «فريسته»! إيهٍ أيها «العاقل».. لقد وقعتَ -من غير أن يِسمّي عليك أحد- في بيئة مقفرةٍ.. إنها البيئة التي تجعل قبيلة: «الجهال» هي التي تتمثّل العالم وفق مِخيالها الاجتماعي -والقائم فعلاً- على إشاعة الخوف والكراهية والعيب، ولقد كان نصيب: «العقل» من هذه الأشياء المرعبة شيئاً كثيراً. وفي سرادقٍ تمّ نصبه على متن مدينة: «الجهل» أشيع بأنه: «مأتم» وعزاء لآخر الرجال الذين كابروا واستعملوا: «عقولهم» على حين غفلةٍ من دولة الحمقى.. المهم -يا سادة- أنّ ثمّة من أخبرني -بسندٍ متصلٍ- ممن اضطرتهم المجاملة/ الخوف لحضور هذا العزاء بأنّ القيّم عليه ختم المجلس بقوله: (مَن تأمل نهاية هذا -المتعجرف- عرف يقيناً أنّ ما بالناس -من أهل هذه البلدة- سوى سوء منطقٍ كان عليه هذا المتعجرف -وحزبه من العقلانيين- وغفلتهم بالتالي عن النظر في مصالح العباد التي تتعارض والعقل، الأمر الذي يقتضي درء هذا الأخير ذلك الذي جرّ على الناس الويلات سُخطاً، إذ منع عنهم المطر وفرش يابستهم بالقحط سنين دأباً…)، وبما أن القيّم على سرادق العزاء يتمتع بصوتٍ جميلٍ آخَّاذ شاء أن يطربهم، فما كان منه إلا أن التقم الميكرفون بفمه ثم صبّ صوته في الآذان صبّاً بمقام الصبا: عذلوني على الحماقة رَسْلاً وهي من عقلهم ألذُّ وأحلى لو لقوا ما لقيت من حرفة العلم لساروا إلى الجهالةِ رسلا ومن هنا يمكنُ القول بأنّ الانخراط في سلك: «الجهال» وحده الطريق الذي بات مضموناً في أن ينتهي بك سالماً إلى حياةٍ ماتعةٍ يجد فيها الإنسان -الطيب مثلك- ما يطيب له ويرتضيه، ناهيك عن سلامته من قلق: «الأسئلة» وشؤم: «المعرفة». ولقد قال «الكنتجي» -أحد زعماء التحامق في عصره- عبارةً وجد التاريخ نفسه مضطراً لأن يُخلدها، ذلك أنها تسفرُ على أن المرض: «العربي» في عدائيّته للعقل لم يكن بالأمر الحادث.. فتأمل معي عبارته التي تقول: «نحن في زمنٍ رأى العقلاء قلّة منفعة العقل فتركوه، ورأى الجهلاء كثرة منفعة الجهل فلزموه، فبطل هؤلاء لما تركوا وهؤلاء لما لزموا، فلا ندري مع مَن نعيش). ولعل: «فوكو» قد قبض بيسراه على طرف الحقيقة حينما راح يؤكد أنّ: «الجنون» قد يكون هو الطريق لفهم الواقع في الأثناء التي ذهب فيها العرب إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ اتفقوا -وهم قلَّما يتفقون- على أنك لا يمكن بأي حالٍ أن يطيب لك عيش إن أصررت على استعمال عقلك، ذلك أن طيب العيش إنما يصار إليه بتغييب: «العقل»، ولا بأس برجمه إن استدعى الأمر ذلك مع الدعاء عليه بالويل والثبور إثباتاً منك لسلامة قصدك: تحامق تطب عيشاً ولا تك عاقلاً فعقل الفتى في ذا الزمان عدوّه فكم قد رأينا ذا نهى صار خاملاً وذا حُمُقٍ في الحمقِ منه سموّه وها هو «المتنبي» يختصر حكاية «جناية العقل» بقوله: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم وبقوله: تصفو الحياة لجاهلٍ أو غافل عما مضى منها وما يتوقّعُ ولمن يُغالط في الحقيقة نفسه ويسوقها طلب المحال فتطمع لا تثريب عليك إن صنّفت المقالة -لهذا الأسبوع- بكونها لا تعدو أن تكون غير دعوةٍ إلى «الجنون الجماعي» في سبيل التّخلي عن «العقل»، هذا الذي هو من أجلِّ نعم الله علينا، بينما ثقافة مجتمعنا أبت إلا أن تجعل منه «نقمة» وسبيلاً يدفع بك باتجاه الفجور والفسق! تخلّص إذن -يا أيها الحبيب- حتى من الوصم بكونك «عاقلاً/ عقلانيّاً»، ذلك أنّ العاقل في عالمنا العربي كالقابض على الجمر يعاني من «الغربة»، إذ ليس يمكنه بأي حالٍ أن يتكيّف مع مجتمعٍ يبسط «الجهل» فيه سلطانه، الأمر الذي حرّض ابن نباتة السعدي على قول: ما بال طعم العيش عند معاشر حلو وعند معاشر كالعلقم مَن لي بعيش الأغبياء فإنه لا عيش إلا عيش مَن لم يعلم وإذا ما اختلط: «الجهل» بشيءٍ من تدينٍ منقوص فإن البلاء إذ ذاك سيتعاظم، لأنه إبان تلك الحال سيكتسي ثوباً فضفاضاً من مشروعية تكرّس له السيطرة على كل مفاصل الحياة، ليقودنا: «الجهل» بالتالي ويسوّغ كل حماقاته ببعدٍ: «دينيٍّ»، ما يجعل المساس ب«الجهل/ الحمق» مساساً بالدين في ظل صراعات لن تسلم هي الأخرى من أذى حماقات السياسة والاجتماع. تلك التي ستجعل من «العقل» مأساةً كبرى، وتتضخم حينذاك معاناة العقلاء، الأمر الذي يكون الخلاص فيه من «العقل» غاية ما نتمناه.