تعلمنا منذ الصغر أن من علمنا حرفاً نكون له ممتنين، ومن ربيانا ورعيانا صغاراً نكون بهما بارين، ومن أرخصوا وقتهم وجهدهم من ولاة أمورنا لتذليل الطريق لنا وتأمينه نكون لهم مخلصين.. فسمعنا وأطعنا.. تقديراً وولاءً لا خوفاً وتبعية. «قم للمعلم وفه التبجيلا»، «الجنة تحت أقدام الأمهات»، «أطع أباك فإنه رباك من عهد الصغر»، «وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي» كلها نداءات قرأناها وحفظناها منذ عهد الطفولة تحثنا على التقدير والامتنان لأولئك الذين لا ترقى حياتنا إلا بهم، فما الذي حدث اليوم وتغير؟ ما الذي تزاحم مع تلك القيم الخالدة اليوم ليؤجج عدم الوفاء عند البشر؟ فالطالب استحال إلى جلاد لمعلم لا يروق له، والأبناء تآمروا ضد والديهم رافعين شعار الرفض والاعتراض لكل ما يصدر عنهم، والمواطن أباح لنفسه حق التغيير لمعالم الوطن دون التقدير لدور المسؤول أو حتى مقومات الوطن، فما الذي يحدث؟ ما الذي أصاب أولئك الجاحدين؟ الحقيقة أنها أزمة وفاء جماعية يتعاضد بها أعضاء الجسد الواحد ضد العضو الوحيد النابض بالجسد، أزمة انفصال عن الواقع والقيم تدحرجنا نحو الهاوية الأخلاقية، أزمة انتماء ومشاعر ولَّدَت بلادة في التفكير وعدم اكتراث تجاه الآخر، فوسائل الإعلام الورقية والإلكترونية تعج كل يوم بقصص الخذلان والنكران التي لا تنتهي، فتلك صحيفة سطرت خبر هدر لكرامة معلم حطم الطلاب زجاج سيارته وعظامه معا، وفي موقع آخر لصحيفة إلكترونية ترتسم مشاعر أم مكلومة وابنتها نال الابن من جلديهما بسلك كهربائي لسرقة ما لديهما من أموال لأجل المخدرات، وفي موقع آخر تولى الابن تعذيب والده بطعنه بسكين دون أدنى إحساس أو شعور بالانتماء لذلك الرجل الذي رباه.. متابعاً بهدوء تفاصيل موته، ناهيكم عن صور التخاذل والعقوق للوطن التي قد تبدو من خلال محاولة التقليد لفرض أفكار وخبرات على أرض الوطن رغما عن الصغير والكبير، والتسكع الإلكتروني لفتيات جريئات منجرفات للمجاهرة بأخلاقيات قد تصدمنا في صميم قيمنا، والتحرش الجماعي لشباب بفتيات عفيفات في مواقع عامة دون خوف من حسيب أو رقيب، بالإضافة إلى تبني أسلوب التعليق على كل شاردة وواردة باستخدام ألفاظ غير لائقة لأبناء الوطن في مواقع الإنترنت، والتزاحم لوضع أفلام شخصية مخلة في مواقع اليوتيوب والكييك، مخلفين وراءهم فوضى أخلاقية وانطباعات متدنية عن أبناء هذا الوطن. الحقيقة أن المعلمين وأولياء الأمور والوطن مصدومون إلى حد كبير بما يحدث من انكسارات لأبنائهم أجيال المستقبل، فالوفاء الذي ضل طريقه عندهم يستحيل أن يضل لو لم تكن له مدخلاته التي فتحت فوهة الجحود، لو بحثنا فيها لوجدنا أنه على الرغم من قلة الدراسات التي أجريت إلا أن الانفتاح الإلكتروني السريع بعد القمع الترفيهي للشباب قد يكون العامل الرئيس لما حدث، بالإضافة إلى التغير الحاصل في التركيبة الأسرية الذي لم يعد يوفر القدوة الحسنة للأبناء لانشغال أفرادها بعوامل الترفيه والعمل الداخلية والخارجية. باختصار، أزمة الوفاء التي أصبحنا نعايشها كل يوم مع من حولنا في كل مكان، لهي في نظري جرس الإنذار الذي يقرع للتدخل المجتمعي لاتخاذ مواقف علاجية بدلا من المشاهدة، قبل أن تقتادنا هذه الأزمة للانصهار بقوالب أخلاقية غربية تغير هوية الوطن.