انغمَّ لرؤية تقدم التيار الإسلامي إلى سدة الحكم في تونس ومصر وليبيا والمغرب فئتان أكثر من غيرهما في الشارع العربي العريض، وهما: عدد من حكام العرب المستبدين إلى جانب قطاع كبير من العلمانيين الأصوليين، الذين نذروا أنفسهم وسخروا أقلامهم في محاولة لإخراج التيار الإسلامي من الساحة الشعبية باستخدام اعتبارات وحيثيات كثيرة، كرميهم بالرجعية والتخلف حيناً، والإرهاب حيناً آخر، وسوء النية باستخدام الديمقراطية كشرٍّ لابد منه من أجل أخذه من أيدي الشعب ووضعه في يد أقلية دينية مستبدة كما حصل في إيران مثلاً. ومنذ بداية الربيع العربي، فإنه يكاد لا يمر يوم واحد دون أن نجد مقالا يحمل الكثير من التخويف والتبغيض بوصول التيار الإسلامي إلى سدة الحكم في البلدان العربية الثورية، وكأنه الموت الذي المعترض على الناس فلا مفر منه ولا نجاة. من وجهة نظري، أرى أن التيار العلماني يعاني من مشكلة وجودية، وهو قيام شرعيته بشكل أساسي على نقد التيار الإسلامي دون تقديم مشروع واضح يكون بديلا للمشروع الإسلامي كي يستميلون به الشارع العربي، والتركيز على نقل الصراع المعرفي والاختلاف الإبستمولوجي حول أهمية وألوية المرجعية الإسلامية كمصدر أساسي وأصيل للتشريع إلى التركيز على أمور فرعية وخلافية وأحياناً شخصنة القضية بتسليط النقد على أفراد التيار الإسلامي. من هنا، أتصور أن من يربط بقاءه من العلمانيين ومعاشه على مشكلة وجود التيار الإسلامي، سيسعى حثيثاً على إبقاء هذه المشكلة ولو حتى قسراً لكي يبقى على الحياة. بقولٍ أوضح، عما سيكتب بعض الكتاب العلمانيون أو المنتكسون على أعقابهم من التيارات الإسلامية، وهم لا يعرفون سوى الكتابة عن نقد التيارات الإسلامية. في هذا الجانب، أتفق مع وجهة النظر التي تقول إنه من حق المثقف أن ينقد أي مرجعية قائمة انطلاقاً من مقولة المفكر الفرنسي فولتير في النقاش الموضوعي والجدل العلمي، وهي «قد أخالفك الرأي ولكنني سأقاتل حتى الموت بأن تقول رأيك». فلا أرى غضاضة، أن يكون للمثقف أيديولوجيا ينظر من زاويتها الخاصة للواقع، ويروج لها لحشد المناصرين والمنافحين عنها، ويسعى لتطبيق مبادئها على الواقع المعاش لتكون قانوناً وإجراء يومياً، ولكن العيب العلمي في نظري، هو حشر الواقع في الأيديولوجيا والتمترس حول خندقها، ورمي الفرق الأخرى بشر وشرر، فهذا ليس من التفكير العلمي الهادف للوصول إلى الحق وتحقيق العدل، بل هو نوع من اللهو الفكري المذموم، الذي يدخل في نطاق العلم الذي لا ينفع من أجل شهوة الإفحام ورغبة البروز على مبدأ عنزة ولو طارت. وأنا لا أدعو إلى ضرب سياجٍ مقدسٍ على التيار الإسلامي، بل أراهم أحوج التيارات على الإطلاق للانتقاد لما لهم من أخطاء كبيرة وقعت في الماضي، ولما هم مقدمون عليه مستقبلاً من أمور جسيمة في الحكم والإدارة. وفي هذا السياق، ومن باب الحكمة التي تقول «إننا نعرف الحق بالرجال، ولا نعرف الرجال بالحق»، أود أن أشير إلى كتاب تركي الحمد «السياسة بين الحلال والحرام» كأحد أفضل الكتب التي قدمت تشريحاً فكرياً ونقدياً للتيارات الإسلامية وطرق تفكيرها، فرغم كل ما يدور حوله أعماله الروائية من مآخذ وانتقادات، إلا أنه في كتابه هذا كحال إبداعاته الفكرية الأخرى كان موضوعياً في طرحه ومحايداً في بحثه. وهو نفسه الذي يرى أن العلمانية ليست شر كلها بل إن فيها أوجه خيرة بالإمكان الاستفادة منها في الحكم والسياسة. في الجانب الآخر طفق عتاة المنتكسين عن التيار الإسلامي، المتدثرين برداء العلمانية حالياً بنعت الشارع العربي بالجهل عندما صوتوا لاختيار مرشحي التيارات الإسلامية، بل بلغ البؤس بأحدهم لدرجة تظن فيها أنه قارئة كف غجرية بائسة عندما وصف الربيع العربي في مقال له بأنه ربيع إخواني، ومؤكداً أن السنة الفائتة شهدت تسونامي أصولي في مصر وتونس وليبيا، ورامياً شباب الربيع العربي بطريقة غير مباشرة بأنه غير متحضر وليس لديه إيمان عميق بالمباديء المدنية. في هذا الوضع، لا أجد لهؤلاء العلمانيين المتشددين من عزاء وسلوى لهم سوى مشاطرة أفلاطون كرهه للديمقراطية باعتبارها توصل من ليس له خلاق إلى سدة الحكم. لذا، أعتقد أنه من غير الجائز ولدواعي الموضوعية، تعليق أسباب التخلف العام الذي طال الأمة على التيار الإسلامي وحده، بل إن المشكلة كما أشار إليها العديد من المفكرين العرب بما فيهم المنتقدون المنصفون للتيارات هي مشكلة فكرية عامة، أي تلامس العقل العربي وطرق تفكيره وليس الموروث الديني الأصيل أي ليس في المرجعية الإسلامية بل بالتفكير الديني نفسه. لقد كان أبلغ رد على دعاوي العلمانيين باستبدال المرجعية الإسلامية بمرجعية أخرى، هو مقطع لعزمي بشارة على موقع (اليوتيوب) وصف فيه أي علماني عربي بأنه جاهل عندما يريد أن يتنازل عن إرث الشريعة الإسلامية العظيم. وأوضح أن جهله يتركز حول جهله في تاريخ أمته. وأشار إلى أنه لا يوجد أحد يدعو لذلك، ذاكراً بأن القانون الغربي قائم على القانون الروماني القديم، وكذلك القانون الإسرائيلي قائم على الشريعة اليهودية. ما أرادت الشعوب العربية أن تقوله عن طريق صناديق الاقتراع، بأنها تريد أن تجعل من الإسلام مرجعها في الأحكام القانونية، والمنظم لأمورها السياسية والاقتصادية، والمؤطر كذلك لعلاقاتها الاجتماعية، فلماذا يعارضهم البعض بل وحتى يزدريهم على اختيارهم ذاك دون أن يقدم لهم بديلاً؟