في قلب الخطاب السياسي مكان واسع للحمة الوطنية، ولم يضق صدره بها يوما بل يجوز أن نقول إنه تعمق في فهم مقومات تكوين المجتمع وأسرف من الخطوة الأولى في دفع الوعي بأهمية الاندماج والوحدة كقوة لتأسيس المستقبل على أرضية من التوافق الإنساني الذي به يمكن تحقيق مصلحة العباد والبلاد في أجواء عادلة مشبعة بالتآخي. تلك الأهمية تشكلت مبكرا بأدوات الحكمة ومنطق العدالة كاستراتيجية واضحة معلن عنها في (مرحلة التأسيس الكبرى) ولا ريب أن أقوال وأفعال مؤسس الوطن قد عبرت عن هذه المسألة الوطنية على الأرض بوضوح لتتبلور على ضوئها وفي امتدادها خارطة الطريق لكل المراحل التي تلت المرحلة المجيدة، حتى أصبحت الوحدة الوطنية من مكونات النظام الأساسي غير القابلة للمساومة، ولهذا سيطرت على محاور الخطط التنموية عيانا بيانا. ومن الأمور التي لا يمكن تعليبها أو اللعب خلفها أن الوحدة الوطنية مدعومة في النشأة والنمو بالعدل والمساواة بين أبناء الوطن دون أدنى تضمين للجهوية أو المذهبية. في الأصل، العدل والمساواة تحت أي ظرف تستحل الصدارة في نظام الحكم الأساسي للمملكة العربية السعودية، بصفته نظاماً يعتمد في كافة تعاملاته على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم، والواضح للجميع في سياق ما تمت الإشارة إليه أن كل الخطابات السيادية دون حصر أو تخصيص تؤكد على أن (تجمعوا ولا تفرقوا ) والدولة في خدمتكم وعلى مسافة واحدة من الجميع هذا هو الواقع لمن أراد أن يراه ويصافحه. وحتى لا يأكل نصف الكلام نصفه الثاني أقول إن الخطاب السياسي السعودي لم يتآكل وقد نجح في تنحية التمييز والتفرقة عن المشهد وكسب بالتالي لم الشمل رغم كل المصاعب والتحديات على ظهر خارطة العالم قريبه وبعيده، ومثل هذا المكسب يستند على صدقية القيادة وعلى ثقة المجتمع في جهود الدولة الموجهة لتضييق هامش العزلة الداخلية ان وجدت ورفع سقف التعايش، ما سبق يمثل قناعات المنصفين لا ريب، ولا يلغي أن الخطاب الديني لم يكن على الدوام مناصرا للخطاب السياسي في هذه المسألة تحديدا، في تقديري أنه لم يعمل بجراءة وشجاعة على إلغاء الاتجاه المتشدد المعاكس ولم يحقق درجة عالية في امتحان خفض صوت المنابر المفتوحة وينبه المتربعين فيها من وراء ظهر المؤسسة الدينية الرسمية إلى خطورة تجاوزات بعض العامة المحسوبين على التيار الديني وطرقهم مواضيع تمس الوحدة الوطنية وتدعو بشكل أو بآخر إلى التفرقة استغلالا لطبيعة الاختلافات المذهبية وهذه مشكلة في حد ذاتها. ومن مكونات التحديات الداخلية المزعجة الرابضة في جحر (لم نأمر بها ولم تسُؤنا ) لدى مرضى النفوس في أحسن الأحوال. أنا هنا لا أنقد المؤسسة الدينية المعتبرة كمرجع شرعي لمساندة الدولة وتبصير الناس أبدا، وكيف يكون لي ذلك وأنا مسرور بما وصلت إليه في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، غير أن المكاشفة تقود أي مخلص لوطنه أن يقول هذا تحت سخونة الأحداث الجارية على الساحة الإقليمية والدولية وما يقابلها في الداخل من برود في الخطابات المفترض خروجها لمساندة الموقف السياسي في الشأن الداخلي والخارجي على حد سواء وبالذات ما يتصل باللحمة الوطنية طالما هناك وجود يحاول قلب الصورة في الإعلام المفتوح. صحيح أن الوحدة الوطنية من بناء الخطاب السياسي. ومن الصحيح أيضا أن نظام الحكم تعهد بحمايتها، غير أن من الذي لاشك فيه أن الخطاب الديني المتشدد (حاول) قلب الصورة وتشويهها. الآن وعلى الأرض من الدروس والعبر ما يكفي. هل مازال المجتمع في حاجة إلى من ينكز ظهره و ينبه لمخاطر تفتت اللحمة الوطنية؟ المجتمع اليوم خصيم نفسه وله في مجريات الأحداث من العبر ما يجب أن يدفعه إلى أخذ الحيطة والحذر ولاكتمال هذه اليقظة لا بد من خطاب ديني لا لبس فيه لإزالة (مطبات) التخوين والتشكيك التي زرعها المتشدد الديني في طريق الوحدة الوطنية لتتعثر عليها بعض فئات المجتمع. استقرار الوحدة الوطنية أولوية ومسؤولية ودمتم.