إن ما نحتاجه اليوم ليس إلغاء الآخر بل إيجاده، لأنه في اللحظة التي نلغي فيها الآخر نلغي فيها أنفسنا، وهكذا يسبح الإنسان العربي في هذه البلاسما الثقافية في الوقت الراهن، أي إلغاء الآخر وليس الاعتراف به. ولا شك أن مثل هذا الطرح قد يعتبره بعضهم ساذجاً يدعو للضحك، أو في أحسن أحواله مثالياً طوباوياً، ولكن العالم العربي ينزف من كل مكان بنزف خطير. هو في حالة (كاريكاتير) لأن الكاريكاتير هو في الواقع تضخيم جوانب على حساب جوانب، مع المحافظة على المنظر الأساس بحيث يعرف؛ فوضعنا العام على المائدة العالمية هو على كافة الأحوال مجال التندر والسخرية بكل أسف لكل من يتأمل بأذن واعية. إن الصراع الإنساني يصبح صراعاً حينما يصمم الطرفان على خوضه حتى النهاية، ويتوقف الصراع أن يصبح صراعاً حينما يتوقف أحد الطرفين عن متابعة الصراع؛ لأنه لا صراع بطرف واحد؟ وهذا الطرح طرحه منذ فترة حزب العمال البريطاني، كما أشار إليه منذ زمن بصراحة غورباتشوف في كتابه البريسترويكا، ولعله هو الذي أراده بشعاره (الموراتوريوم). إن مشكلة الصراع الإنساني والتضحية ب(القربان الإنساني) والحرب بكل أشكالها تفضي بعضها إلى بعض، في سبيل تدشين عقلية ذات أبعاد معينة لا تؤمن بالحوار. لا تؤمن بقدرة العقل الإنساني على حل المشكلات بفهمها. لا تؤمن بالديمقراطية. إنها تؤمن بالعنف، ولكن تعلمنا أن العنف لا يجتمع مع الديمقراطية، كما أنه لا ازدهار مع تسلط. هذه هي مشكلة المشكلات وجوهر ارتفاع وسقوط الحضارات، بل هو الخوف الأكبر، إن بزوغ الشمس المزدوج مع تجربة قنبلة البلوتونيوم 239 في صباح يوم 16 تموز يوليو من عام 1945م كان إيذاناً بتحول نوعي في تاريخ القوة، وأصبح ولأول مرة في تاريخ الجنس البشري إمكانية إفناء الجنس البشري بالكامل، ولذا فإن أعظم تحدٍّ يواجه الجنس البشري اليوم هو تغيير عقلي يناسب القفزة التكنولوجية والعملية التي حققها الإنسان!! إن التاريخ يحدثنا بفصول مروعة عن مناظر القرابين البشرية بين معركة ستالينغراد حيث يُجرجِر (تسعون ألفاً) أقدامهم إلى الأسر بعد أن أبيد معظم الجيش النازي العرمرم الذي لا يُقهر على يد الجيش السادس بقيادة فون باولوس وكان من خيرة الجيوش الهتلرية بتعداد بلغ 360 ألف جندي، أما الذين اكتحلت أعينهم برؤية الوطن مرة أخرى من بقيتهم فكانت لا تزيد على خمسة آلاف؟؟!! لقد اجتمعت ببعضهم في ألمانيا أثناء رحلتي للاختصاص، وهكذا قضى ما يزيد على ربع مليون إنسان نحبهم في الصقيع والبرد والقذائف المجنونة وشظايا المدفعية والرصاص المنهمر والسلاح الأبيض ومع أنين الذكريات وفجيعة الأهل ومحنة الوطن وكرب الأقوياء والأهل.