لقد أبدعتْ الشعوب في تأصيل لغة الألوان، كتعبير عن أدق المشاعرِ الشخصية، وتصوير شؤون الحياة والعلاقات الاجتماعية بشكل أدق، من خلال وصف الحالة المُعاشة بلون معين، يُعطي دلالة على كنهها، وطعمها، وحميميتها من عدمهِ. وقد ثبت نفسياً أن للألوان تأثيراً على النفس والسلوك، حتى بات ذلك علماً ودراسة، فلكل لون من الألوانِ من حولنا ارتباطٌ نفسي (لا إرادي)، يدخل في ردود فعل اللاشعور الداخلي، ويتضح من خلال تفاعلاتنا. فلا يكاد أحدهم يذكر مسمى اللون الأبيض، إلا وتعرف أن النقاء والطهارة، والبهجة والسعادة تشرق من كلماته. وعلى العكس فلو بادرك أحدهم بالسواد «لا نقصد التعنصر»، فإن المعاني لا تلبث أن تصطبغ بالحزنِ، والخوف، والكآبة، والموت. وفيما بين هذين اللونين تتدرج بقية الألوان الأخرى كمحطات تميز على مداراتِ قوسِ قُزح. فالأخضر لون العشب، اللون المنعش، يضفي السكينة والتوازن، والنماء، والخير. والأزرق لون حضن السماء وصفاء الموج، يولِّد مناخاً من السكينة والانفتاح والحرية. والبرتقالي لون الثمر الصيفي، مفعم بالتحدي، والنضج، والعنفوان. والأحمر لون شدة العشق وجنونه. والوردي لون المودة الهادئة النقية. والأصفر يعطي معاني الحدة والغيرة والوحدة والمرض. والبني لون الالتزام والتضحية، والتربة، والعطاء دون منٍّ. والرمادي حالة من الضبابية، والغموض، والأسرار، والأسئلة بلا أجوبة. والكحلي أو البنفسجي الغامق، لون سماء أواخر الليل، وغموض عمق المحيطات. وحقيقةً إن ما يدعوني للحديث عن الألوان، هو رغبتي في تأكيدِ تصور للمجتمعات، التي نعيش ضمنها في عالمنا العربي، وإن لم تكن سواء، ولكني أقصد الغالبية، للربط بين الألوانِ والعلاقات الاجتماعية. كثيرٌ من مجتمعاتنا صارت تردد مقولة إنها لم تعد تجتمع إلا على مناسبة سوداء. وكثير منا لا يبادرون بزيارة الصديق ولا القريب إلا عندما تصيبه رزية، فيلتصقون به كالعتمةِ طوال مصيبته، يُعددون ويحوقلون، بينما قد لا يزورونه البتة لو كان عنده مناسبات وردية سعيدة، وربما يجاملونه وقوفاً للِّحاق بأشغال حياتهم. وهنا يكون لون المجتمع مطلياً بالكحلي الكئيب، والأسود القاتم، ومرتعاً للوطاويط والعناكب. الاعتدال دوماً يكون الأجمل، وأنا لا أقصد الاعتدال الرمادي، بل أقصد أن نحمل بين أجفاننا تمازج جميع الألوان بنفسِ القدرِ، وأن نوزعها حسب الظروف والزمان والمكان في مختلف أوقاتنا على أحبتنا، وأهلنا، ومجتمعنا. لماذا نضبت مشاعرنا، وصار الأخ لا يزور أخاه إلا في مناسبة صفراء، أو مصيبة كحلية؟!. لماذا لم نعد نفرح لمن ينجح، فلا نشد على ذراعه بالبرتقالي، ولا نُخلص في ضحكتنا كبياض الياسمين، ولا نحتفل بنجاحه بقلوب وردية، وخواطر زرقاء، ومحبة شفافة؟. لماذا نبذنا من يحبوننا حباً أخضر، ينمو في تربة بُنية، لمجرد أن معطياتهم المادية قليلة؟. دعونا نفتح للحب نافذة شفافة لا تدخلها الأجواء الرمادية، ولنبتعد عن مغبة البرونزي، وجشع رنين الذهبي، وتَصنُّع دمعة الزئبقي.