(إلى من يرون العبادات عاداتٍ كئيبة غاضبة): سبق له الحج عدة مرات ويفخر بعدد الحجج.. حريص كل عام على العودة من هناك كما ولدته أمه.. وقبل وداعه صاحبه كان بينهما حوار معولم. سأله صاحبه: هل تشعر بذنوب تقتضي منك محاولة الحج كل عام حتّى تستحلّ التّهريب طلباً للأجر؟؟ استغرب سؤاله قائلاً: أريد من الله مزيداً الأجر والحمد لله لا جرائم وتهريبي إلى بيت الله ليس جريمة!! أجابه: الحج هو الركن الوحيد الذي يكفي أداؤه مرة إذا استطعت إليه سبيلا .. والنبي حجّ مرة واعتمر مرة.. وأنت في هذا البلد مَحَجٌّ للعالمين من مليارات الحالمين بفرصة الحج ورؤية كل شبر ومَعْلَمٍ من بلدك هذا الذي انطلق منه الدين، أفلا تكُنْ عادلاً بترك مكانك لغيرك وتكتفي بقضاء هذا الركن؟ أم أنك أفضل من غيرك من أولئك الذين ينتظرون في العالم بلهفة ؟ أنا أعلم أن الإنسان أناني بفطرته، وأن خوفه وطمعه طاغيان على حبه الله وخلقه، وأدري أيضاً أن ضعف الوعي مدعاة لمجرد التجمهر مع الملايين كي لا يفوته أجر بعد شعوره أو إشعاره بالذنوب كل آن وفي كل مكان، وأدرك أيضاً أنه يحب المحسوس إلى درجة أنه قبل معرفته الأديان بحث عن ربه في كل شيء، فإبراهيم كان يتصيد النجوم ومظاهر الطبيعة كي يعثر على ربه حتى جاءه اليقين، وأصحاب (بوذا) جسّدوا تماثيلهم وأبدعوها لإشباع أمن رؤيتهم إشباعاً محسوساً.. لمَ تكلف نفسك ما لم تُكلف به؟ ولمَ تحرم إخوتك في العالمين مكاناً هم أحوج منك إليه ؟ ألم تجد حسنات هنا تستطيع عملها سوى أخذ مكان غيرك تهريباً ممنوعاً وأنت مستغنٍ عنه ؟ ثم هل أنت متأكد أنك لم تخلط بين العادة والعبادة؟ ولا بين الحج والسياحة؟ خوفي عليك أن تمارس العبادات كعادات، لأن نظرية التعلم تنبئ عن تحول الممارسات بتكرارها إلى عادات، فمنهم من صارت عباداته مجرد طقوس احتفالية جمالية بحتة، وفي هذا خلط بين الحياتية الجمالية وبين الدينية الخالصة.. صاحبه: فلمَ أتاحوا لي الحج بعد كل خمس سنوات؟ أليس هذا النظام يمنحني فرصة الولادة من جديد؟ ولمَ لا أستثمر التصريح لي بهذا؟ هنا في هذا الموقف أستطيع تجسيد المحشر، وأعود بهذا التصور، وإذا نجوتُ فلا يهمني غيري لأنني في ذلك اليوم سأفرّ من أخي وأمي وأبي وصاحبتي وبنيَّ… قال له: هذه دلالة على ميكيافيلية (نفعية) الإنسان المسكين الذي تحمَّل من القيم ما لا يحتمله!! يا سيدي (حج البيت من استطاع ….)، ويدخل تحت الاستطاعة مراعاة فرص الملايين من إخوتك في أرجاء الأرض، فلست وحدك من يستحق رضا الله ويبحث عنه، وأعدْ حسابك في التفريق بين الحج والسياحة وبين العادة والعبادة.. استعرضا معا فكرة الحجّ لدى العرب منذُ جاهليتهم في هذه الجزيرة وتعدد محاجّهم وكعباتهم، وحتى فكرته لدى الجنس البشري، وهل هي فعلاً عبارة عن بحث عن التطهير من الذنوب التي يشعر المخلوق الإنسان أنه محمّل بها طيلةَ عمره؟ واستعرضا حج البوذيين على يديهم وبطونهم وحبوهم وتفننهم وما يعانونه في سبيل هذا التطهير، وحج اليهود والنصارى وكراسي اعترافاتهم التي تاجر بها باباواتهم وكرادلتهم .. وصلا إلى أن هذا الكائن العجيب (الإنسان) ضعيف جداً بمقدار قوته، مشحون بالشعور بالذنوب وكأنه لم يخلقْ إلا مرتبطاً بها.. وعلى الوجه السلوكي الجَماليّ الآخر، وجدا أنه كائنٌ طقوسيّ بفطرته، فلو لم تأته طقوس أخلاقية لخلق له طقوساً.. ولم ينسيا استعراض أنموذج إسلاميّ كمثال قريب لهما وهو أمير حجّ الطالبيين: الشريف الرضيّ، الذي أخرج لنا نصاً جمالياً غزلياً خالداً من أجمل النصوص العربية خلال رحلة حجه عن إحدى حاجات الرّكب، قال فيه: يا ظبية البان ترعى في خمائله ليهنك اليوم أن القلب مرعاكِ الماء عندك مبذولٌ لشاربه وليس يرويك الأ مدمعي الباكي هبّتْ علينا من رياح الغور رائحة بعد الرقاد عرفناها برياك سهم أصاب وراميه بذي سلم مَن بالعِرَاقِ، لَقد أبعَدْتِ مَرْمَاكِ وَعدٌ لعَينَيكِ عِندِي ما وَفَيتِ بِهِ يا قُرْبَ مَا كَذّبَتْ عَينيَّ عَينَاكِ حكَتْ لِحَاظُكِ ما في الرّيمِ من مُلَحٍ يوم اللقاء فكان الفضل للحاكي كَأنّ طَرْفَكِ يَوْمَ الجِزْعِ يُخبرُنا بما طوى عنك من أسماء قتلاك أنتِ النّعيمُ لقَلبي وَالعَذابُ لَهُ فَمَا أمَرّكِ في قَلْبي وَأحْلاكِ عندي رسائل شوق لست أذكرها لولا الرقيب لقد بلغتها فاك سقى منى وليالي الخيف ما شربت مِنَ الغَمَامِ وَحَيّاهَا وَحَيّاكِ إذ يَلتَقي كُلُّ ذي دَينٍ وَماطِلَهُ منا ويجتمع المشكوّ والشاكي لمّا غَدا السّرْبُ يَعطُو بَينَ أرْحُلِنَا مَا كانَ فيهِ غَرِيمُ القَلبِ إلاّكِ هامت بك العين لم تتبع سواك هوى مَنْ عَلّمَ البَينَ أنّ القَلبَ يَهوَاكِ حتّى دَنَا السّرْبُ، ما أحيَيتِ من كمَدٍ قتلى هواك ولا فاديت أسراك يا حبذا نفحة مرت بفيك لنا ونطفة غمست فيها ثناياك وَحَبّذا وَقفَة ٌ، وَالرّكْبُ مُغتَفِلٌ عَلى ثَرًى وَخَدَتْ فيهِ مَطَاياكِ لوْ كانَتِ اللِّمَة ُ السّوْداءُ من عُدَدي يوم الغميم لما أفلتّ إشراكي (تُرَى: هلْ بقيَ لنا من مفهوم الدين شيء من مستوى شيخ الطالبيين وأمير حجهم ذاك)؟؟؟؟